عادة ما تضع أميركا الدولة العميقة عدة استراتيجيات لتحقيق أهدافها في أي منطقة، فهي تدرك نظرياً وعملياً أن الأحادية القطبية التي جعلتها القوة الأعظم المتحكمة بمفاصل الحياة في العالم بعد البيروسترويكا انتهت الى غير رجعة، لكن ليس من السهل أن تسلم بهذه النتيجة الوخيمة التي أعادتها الى داخل حدودها مهزومة في أي بلد تدخلت به مباشرة أو عبر أدواتها مستخدمة تارة الاستراتيجية الناعمة مع الدول التي توازيها قوة كالصين وروسيا، وطوراً الاستراتيجية الصلبة كما هو الحال في دول منطقتنا، وفيها إما ان تنجح وتسير في مشروعها التفتيتي الذي يخدم ربيبتها إسرائيل، لأو تنكفئ لتعود وتغير استراتيجياتها..
إن كثيراً من أرباب هذا المشروع لا يزالون مصرين على المحاولة و يتصورون وجود فرص لإنقاذه رغم أن أحداً من العقلاء لا يرى أن فرص نجاح الأحادية القطبية فيها شيء من العقلانية و الموضوعية.
وفي استراتيجية القوة الصلبة سارعت إلى زج جيوشها و جيوش حلفائها في جبهات الشرق الأوسط التي تعثرت في العام 2006 حيث عجزت في لبنان عن تحقيق أهداف إسرائيل وأميركا في الميدان عجزاً أجبر أميركا إلى التحول إلى “استراتيجية القوة الناعمة”التي سقطت هي الأخرى في العام 2009 في إيران بعد لبنان ، فكان تحولاً أميركياً إلى “استراتيجية القوة العمياء” والحروب البديلة التي تخوضها أميركا بتجمعات إرهابية تحت عناوين دينية .
لكن أميركا بدلاً من أن تقر باستحالة مشروعها و تتحول عنه إلى نهج واقعي، أمعنت في النهج العدواني و ابتدعت استراتيجية عدوان رابعة قد تكون الأكثر خبثاً و كيداً، وهي التجويع والإنهاك و التآكل البطيء ، ويكون ذلك بزعزعة الاستقرار. وهو أمر ينفذه عملاؤها.
هذه هي استراتيجية أميركا اليوم التي تترجم في لبنان حصاراً ودفعاً إلى التآكل وعدم الاستقرار، وهذا ما يفسر كل ما جرى من آذار 2019 حيث أطلق بومبيو خطة إسقاط لبنان من بيروت. . إن استراتيجية القوة الخفية الذكية التي تشن أميركا بمقتضاها الحرب على لبنان وتدعي أنها حرباً على حزب الله فقط، تترجم بالتلاعب بالنقد الوطني والحصار الاقتصادي والتهويل بالتجويع وأخيرا بطرح “حياد لبنان” وما أنتجه الطرح من انقسام في لبنان ينذر بانفجار داخلي .
أما في سورية فإن “استراتيجية القوة الخفية الناعمة تترجم بالمقولة الأميركية “إطالة أمد الصراع” ومنع الحل السياسي ومنع الحسم العسكري .
و في إيران تبدو تطبيقات “القوة الخفية الذكية”، فقد لجأت أميركا و إسرائيل إضافة إلى الحرب و الإرهاب الاقتصادي، وبعد أن مارست عمليات الاغتيال الصريح المعلن عنها، لجأت إلى الحرب السيبيرانية وعمليات الخلايا الإرهابية و التخريب و الاغتيالات والتفجيرات.
إن شروط نجاح أميركا في استراتيجية القوة الخفية الذكية هي في وجود مواطنين في الدولة يرتضون التحول إلى عملاء لزعزعة الاستقرار.
و نجد أن إيران بما لديها من قوة و إرادة و خبرة قادرة على المواجهة، و إنزال الهزيمة، أما سورية فهي تملك الإرادة على إفشال أميركا وإسرائيل ، و يبقى لبنان الذي قد يشكل خاصرة الضعف في المشروع نظرا لاعتبارات ديمغرافية و سياسية و بنوية و طائفية و هذا ما يستلزم الاستعداد و الحذر لمواجهة المشروع الذي يعتبر الأكثر خطراً.
وإن غداً لناظره قريب
معا على الطريق- د. عبد الحميد دشتي