الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم :
في طقوس حميمية لا تخلو من مسحة حزن، يأخذنا الشاعر قحطان بيرقدار في «سراج وغربتان وليل» إلى أمداء واسعة، بعيدة، يحاكي من خلالها شغف الإنسان بماضيه وحاضره.. بالزمان والمكان وارتباطهما الوثيق بالذاكرة ومفاعيلها المتجددة، وإطلالاتها المستمرة لتعيد رسم المفردات والصور بكل بهائها وحضورها.
سبعٌ وثلاثون قصيدة متباينة الطول والقصر، تجمع ما بين القصيدة العمودية والتفعيلة وقصيدة النثر، تنداح بحيوية وشغف على مئة وست وثلاثين صفحة من القطع المتوسط وحملت عنواناً مدهشاً «سراج وغربتان وليل»، وهي من إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019 . هو العبور إلى الضفاف البعيدة التي لا تجف أسرّتها وحوافها المتجددة.. ضفاف للروح.. والحلم.. عبور متيقظ إلى الأبدية والخلود مروراً بحياة صاخبة مليئة بالأحلام والأمنيات التي لا تنتهي.
في قصيدة «عبور» يحاول الشاعر أن يترجم هذه الفلسفة، فلسفة الحياة والوجود، ينثر تفاصيلها بحريّة وشغب، كما الفراشات وهي تعانق الضياء وصولاً إلى سدرة المنتهى.
«ومِنْ لحظاتِ الأصيلِ بدأتُ حياتي
وسرتُ على وَهَجِ الأمنياتِ
وأرهفتُ سمعي لصوتٍ خفيّ
يموتُ ويحيا
وما زلتُ أحيا
وهذا افتراضٌ تجلّيه رُوحي
وقد أوغلت ْ في نزيفِ الجروحِ
لتصعدَ مُترعة ً بالفناء».
ثمّة مصطلحات تطفح بها قصائد المجموعة، تتقاطع وتتماهى في مراميها وأهدافها لتبدو معها الصورة الشعريّة أكثر جاذبيّة وأكثر تعبيراً، والشاعر هنا لا يقف عند العتبات التقليدية للقصيدة محاولاً ومتجاوزاً كل الصيغ المعهودة، ليضيف وبتقنية الفنان المبدع تفاصيل اللوحة الشعريّة فتزدهي حروفها ألقاً، وبنيانها تماسكاً وقوّة.
«وابتَدأنا كوكباً
حلةَ الجَرَيانِ
تحت القُبَّةِ الخضراءِ
واتضحتْ جنان الأرضِ أكثرَ
واستوينا قائمينِ
وقد تماهينا بنورٍ
واتّحدنا كوكباً
يجلو الحقيقةَ
في الزّمانِ وفي المكانِ».
تطرح قصائد المجموعة وجع الشاعر وقلقه وحزنه الدفين فتنداح حروفه في حزنٍ نبيل، هو وجع الأسئلة الكبرى؟ أسئلة بحجم المدى، ولعلّ أبرزها وأكثرها قلقاً السؤال الذي حمل عنوان قصيدة «أينَ الماء؟».
«دعْ عنكَ هذا، فالوضوحُ شِفاءُ
والصمتُ وحشٌ، والغموضُ فناءُ
قُلْ: إنّ جرحيَ في اتساعٍ، والمدى
نصلٌ، وروحي في السّديمِ دماءُ
قُلْ: إنّ وجهي وحيُ قلبٍ لم يزلْ
يحبُو وتعصرهُ يدٌ حمراءُ
كُن أنتَ أنتَ، كما ولِدتَ مُسربَلاً
بصراخكَ الأزليّ: أينَ الماءُ؟!».
من يتمعّن في مفردات هذه القصيدة، يلحظ حالة الوجوم التي تعتري قلب الشاعر وروحه، يدرك جيداً أن الوضوح في مواقع كثيرة هو الشفاء، حيثُ نجد مصطلحات تعبر عن اغتراب الإنسان في داخله وغربته مع روحه مثل: «الصمت، الغموض، جرحي، نصلٌ، دماء، السديم».
فالصورة تكتمل بأبعادها الذاتية والنفسية من خلال السؤال المحور، أو السؤال القضيّة: أينَ الماءُ؟ أين الحقيقة؟ أين الصفاء؟ أين النقاء؟
علّ الماء يغسل وجع الروح المتراكم، ينقّيها من أدرانٍ علقت بها عبر سنوات العمر المنصرمة.
تضج قصائد المجموعة بمواضيع حياتية شتّى تتقاطع ما بين الذاتي والحياتي والإنساني. وبلغة سرديّة ماتعة يأخذنا الشاعر بيرقدار إلى تخوم التأمل والدهشة، فينثر عبق حروفه بانسيابيّة واضحة تجعل القارئ أسير هذه اللحظة الشعريّة، فيحلّق بعيداً في بحور من المتعة.. التأمل.. الدهشة والتي لا نهاية لها.
«هل يا تُرى سأعودُ طِفلاً عاشقاً
مِن قبل أن تنداحَ ظُلمةُ طلعتي؟
حُلمٌ يُحررُني، أحلّقُ باكياً
نحو السّراج على جًناحَيْ فِطرًتي».
وتظلّ الشام بجمالها وخصوصيتها موئلاً رحباً للقصائد والعصافير، منها يستمد بردى مداده وروحه، ومن غوطتها وبساتينها وعرائشها تنبض القلوب وتهفو الأرواح في رحلة سرمديّة.. رحلة الخلود.. رحلة التجذر والبقاء.
«مَأوايَ في الشّامُ، لي فيها ابنةٌ شربت
حنانَ روحيَ مُذ سمَيّتهُ بردى
حتى غَدت حين ضاعَ النهرُ لي رئة ً
وكوثراً في جنانِ الرّوحِ ما وُرِدا
والشّامُ، ما الشّامُ إلا قلبُ عاشقها
واللهُ، ما لله إلا قلبُ مَنْ عبدا
منها أعرّشُ، أغصاني مُسافرةٌ
في كُلّ وادٍ، وجذري ثابتٌ أبدا».
وبلغة سرديّة متقنة، لا تخلو من رمزيّة الصورة، يروي الشاعر «في وجه الحكاية» الترقّب والغوص في حالة البوح والانتظار بعيداً عن النمطيّة المعهودة، فهو في انتظار وتوق دائمين لوجوه قد تأتي مع البنفسج.. مع الغروب.. مع فرحة العيد.
«لحكايتي
وجهٌ يؤوَّلُ بالبنفسجِ
والغروبِ
وآخر لحظةٍ في العيد
وجه كالغُيومِ على الحيارى
لحكايتي
وجهٌ يُبشّرُ بالطُّفولةِ».
في قصائد المجموعة تكتمل الصورة الشعريّة من حيث بنيتها اللغوية وموسيقاها الداخليّة، فتجد نفسك في رحلة ماتعة وكأنّك في دوحٍ غنّاء يعبق بألوان الزهور لتشكل باقة يفوح شذاها عطراً وينابيع.
«أعد مجد قلبك
كُنتَ كبستان لوزٍ وتين
تلمُّ الجياعَ
وتؤوي الحيارى
وتنشر أشهى أطلالكَ للعاشقين
تُغرّدُ فيكَ عصافُيرهم
وتُولدُ فيكَ أمانيُّهم
وتسقيهمُ من مياه الحنين».
وفي زحمة وتداخل وصخب هذا الكون، في تعدد المواجع وضياع الجهات، وشغب الطرقات وتشعّبها وكثرة الثرثرة والكلام، يكون الصمت أبلغ إجابة وأنجع رد.
«الصمتُ أبلغُ
حينَ تختلطُ الجهات علي َّ
والطرقات تبلعني
وكلّ الكائنات
بموتها فوقي تُنيخُ..
والصمتُ أبلغُ
حين أبصرني
دماً يذوي
وأغنية تشيخ».
«سراجٌ وغربتان وليل» مجموعة شعريّة جديرة بالقراءة، فيها إضافات جديدة، تعبّر عن غنى وتنوع تجربة الشاعر قحطان بيرقدار سواء في كتاباته الموجهة للأطفال، أو مجموعاته الشعرية الست والتي شكلت محطات هامة في مسيرته الإبداعية. المجموعة تنبض بالصور الحسيّة والتعبيرية المتجددة، وتعطي أنموذجاً للعمل المتكامل بكل تفاصيله.
ومن الجدير ذكره أنّ الشاعر قحطان بيرقدار من مواليد دمشق 1977، يحمل الإجازة في اللغة العربية وآدابها، عضو اتحاد الكتّاب العرب في سورية، مقرر جمعية الشعر، يعمل رئيساً لتحرير مجلة أسامة الموجّهة إلى الطفل، إضافة إلى عمله مؤلفاً للأطفال ومدققاً لغويّاً في عدد من دور النشر ومؤسسات الإنتاج الفني في سورية وخارجها.
صدرت له ست مجموعات شعرية هي: (لو تعودين قبل أيلول – في آخر الأعلى المضيء – مجرة في تفاصيل الحنين – من نغم إلى نغم – وجه لأنثى من زمان الوصل – سراج وغربتان وليل)،
كما فاز الشاعر بيرقدار بعدة جوائز محليّة وعربيّة منها: جائزة الدولة التشجيعية في مجال الأدب عن وزارة الثقافة عام 2018، والمركز الأول في مسابقة الشارقة للإبداع العربي عام 2018-2017 عن مجموعته «من نغم إلى نغم».
التاريخ: الثلاثاء1-9-2020
رقم العدد :1011