الملحق الثقافي:رشا سلوم:
لم يكن نجيب محفوظ روائياً عادياً في كل ما قدمه وفعله، في حياته، وإبداعه، بل كان مثار الجدل، في صمته حيناً حول الكثير من القضايا، ومع ذلك كان صوته من خلال رواياته التي عرت الواقع الاجتماعي في مصر، وحين سئل عن الوباء الاجتماعي الذي يصفه قال: لم أصف إلا جزءاً من الواقع، فما هو موجود أكبر بكثير.
في ذكرى رحيل محفوظ، من أجدر منه أن يقدم نفسه للقارئ العربي والعالمي في الكلمة التي ألقيت نيابة عنه حين فاز بجائزة نوبل للآداب، يقول محفوظ:
سادتي
أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأن لحظة إعلان اسمي مقروناً بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن أكون. فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية.
ولعلي لست في حاجة إلى تعريف بأي من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف. وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات، فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله.
سادتي..
لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعة. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضي عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.
هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة – رجالاً ونساء وشباباً وأطفالاً – تكسيراً للعظام وقتلاً بالرصاص وهدماً للمنازل وتعذيباً في السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليوناً من العرب، يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل. أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصاً؟
ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنات البشر في الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة، ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعي، فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار في دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم في بؤرة العصر.
قديماً كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبراً بقية الأمم خصوماً أو مواقع للاستغلال، دونما أي اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتي. وفي سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم، وبرزت وسائل غير لائقة، وأزهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة.
اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسؤولية نحو البشرية جميعاً. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسؤوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلي لا أتجاوز واجبي إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسؤولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن في عصر القادة المسؤولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستبعدين في الجنوب الأفريقي. أنقذوا الجائعين في أفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة، والفتوا أنظارهم إلى أن مسؤوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه.
سادتي..
معذرة. أشعر بأنني كدرت شيئاً من صفوكم، ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس أن كل إناء بما فيه ينضح؟
ثم أين تجد أنات البشر مكاناً تتردد فيه إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلباً للمغفرة، فنحن – أبناء العالم الثالث – نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته.
سادتي..
رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف كانط إن الخير سينتصر في العالم الآخر، فإنه يحرز نصراً كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية.. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان. غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال: إن حـــزن ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
سادتي..
أكرر الشكر وأسألكم العفو.
التاريخ: الثلاثاء1-9-2020
رقم العدد :1011