أظلمت الدنيا فجأة، تلبدت حياتنا بغيوم سوداء، أمطرت حزناً أغرق دنيانا بما فيها. لم تعد تظهر الشمس كعادتها.صارت داكنة رمادية شعاعها يلهب العيون لتقطر دمعاً انهمر شلالات، فالنخلة الباسقة ذوي سعفها الزاهي في زفرة انتهت فيها شامخة واقفة.
يصرّ القدر أن يصفعني صفعات مزدوجة في كل مرة تمتد يده فيها ليؤلمني، ما كان بيني وبينك يوماً ثأر. لم تصر على زرع الحزن في قلبي، تراك لتعطل مسيرة حياتي أم لتمزج عسر الأيام وقسوتها الممتدة على مدى الوطن بحزني فتضيع ملامحها.
أيها القدر القاسي أما اكتفيت بمن حرمتني منهم في تعداد سنة 2010 عروس الشام العشرينية وفتى التفوق العربي.. لتبدأ رحلة الضنى والسهاد.. الأنين الذي تفجر فيَّ آلاماً مازالت تتقطر من القلب، وغصةَ فقد الأب الشاب مازالت تستعر.ثم فقد الزوج.
ما الثأر بيننا لتعصف بنخلتنا الباسقة؟ وتغلق باباً من أبواب الجنة في وجهنا. وتجعل الدنيا توجعنا بعدد حركة عقارب الساعة. تختطف المخلوق الذي كرم الله الجنة حين وضعها تحت قدميها. لتؤلم من يحيا ببركة رضاها، كل نسل امتد من رحمها الطاهر
أمي.. لم يصر التراب أن يزاحمنا على بسمتك النيرة، التي تضاهي الشمس إشراقاً. فيسلبنا نعمة النظر إلى وجهك النوراني، الذي كان يضيء حياتنا جميعاً أبناء وأحفاد غاب ضياء أيامنا، صارت دنيانا ظلاماً. شاهت الألوان غاب قوس قزح والدنيا سواد
قديستي.. أطرقت الحروف خجلى تتوارى خلف بعضها، كيف لها أن تلتئم لترصف منها القصائد والمرثيات؛ في سيدة النساء، أطيب قلب، أطهر الخلق، من دخلت بعمر الأربعين محراب الترمل بعد غياب سيد الدار ورفيق العمر الشاب بقوة القدر.
ورثت النخلة الباسقة سبع فسائل تفاوتت أعمارهم، صغيرهم يرسم من العمر أربعاً. وقفت حياتها لرعايتهم. كان لابد أن تصبح الفسائل نخلاً طيب الثمر كثمرها، صارت الفسائل غابة من نخيل، تحتضنهم بسعفها الأخضر الباسق من عوامل الدهر لتطمئن.
حافظت على عادات الدار، كأن صاحبه حاضر أبداً، الكرم، العطاء، الترحاب بكل ضيف،عرائس ومرضى ومن وضعوا أنفسهم تحت ظل علم الوطن.أخوالاً وأعماماً. أياديها البيضاء أعطت كل ذي حق حقه.كانت الخطوط الحمراء لأبنائها قيماً وسلوكاً.
زرعتْ فينا عشق الوطن وحب العلم وأصالة الخُلق.علمَّتْهم بسط اليد لمن يحتاج. أنا اليوم طفلتك تائهة في فراغ، بغياب الزوج رفيق العمر أبحث عنك لتسندي ظهري. أمي سيدة نساء عصرك آخر نساء الزمن الجميل. ليتني أستطيع أن أكون مثلك يوماً
رأفة يا رب بقلوبنا المنفطرة، أكرمنا بالصبر الجميل. وجعُنا سَلَب كل جميل في حياتنا. صوتي يمزق روحي..أمي غابت.. غابت.. هل للتراب أن يكون حنوناً على الجسد الطاهر، كما الجنة التي تنتظر روحها الطاهرة، ضيفة آل البيت الكرام.
أمي في رحاب الله، مع ابنتي وأبيها وحفيدي، زوجي والدي والشهداء وأبرار الجنة قديستي بغيابك تعطل الكلام، سكنت الطيور أعشاشها، وتهدلت أوراق الشجر.. ذبل الزهر تيبست أزهار ياسمينك .حنت القرنفلات رؤوسها، وتكسرت أعواد الزنابق.
ركعت الأبجدية تتوسل حروفها لتُشهِر ملحمة حياتك ونضالك.أعجبُ من الموت أما خجل من ابتسامتك، ودموع من عرفك ليدعك لنا ويمضي..أصر على يتمنا ووجعنا استعجل ليدرك سيدة الفرح والابتسامة التي تجاوزت محن الزمن لتهبنا الحياة..
أما خجل من صور التفافنا أبناء وأحفاداً وأسباط وأنت تغبطين الجميع بقلبك الكبير في بيتك الصغير. الذي وهب الوطن نساءً ورجالاً .. مازالوا أطفالاً أمامك بحاجتك تنز أرواحهم ذاتها قطرة قطرة بغيابك، وأنت في رحمة الله الواسعة. آآآه يأمي…
أيها القدر لم غيبت نور وجهها وأظلمت دنيانا. ما أثقل (كانت)، هل يمكن أن تصبح أمي شريط ذكريات.. مازلت أضج بمن رحلوا في لحظة غفلة. كم أحببتِ الرياض الخضر والنسيم. أسأل الرحمن لك قصراً من ياقوت وزبرجد في نسيم رياض الجنة.
في جمعة العيد غاب السند والرفيق.وفي جمعة عاشوراء غابت شمسنا.عانَقنا الحزن الأبدي.غابت الحسينية الأصيلة إلى حيث النبي الكريم.يا نخلة العطاء ياطيب ثمارك التي أودعت.. وداعاً أمي.. ودمعي يجري متراكماً ليغرق نفسي على نخلتنا الباسقة.
إضاءات – شهناز صبحي فاكوش