الثورة أون لاين – علي الأحمد:
علينا ألّا ننخدع كثيراَ في مقولات الحداثة والأصالة في موسيقانا العربية المعاصرة، فالسائد المطروح في هذا المشهد يتعارض كلياً مع هاتين المقولتين، بما تمثلهما من طروحات فكرية وثقافية، كانت إلى وقت قريب محور نقاشات وتجاذبات معرفية، بين المفكرين العرب عبر منتديات ومؤتمرات وغيرها خلُصت إلى ضرورة الحداثة المعقلنة انطلاقاً من العناصر الوطنية بما تمثله من أصالة وخصوصية، في فهم أوضح لجماليات هذه الحداثة المنشودة، التي تضفي روحاً جديدة في طرق الكتابة والتأليف والممارسة.
صحيح أن هذين المفهومين، كانا إلى وقت قريب “تحديداً بدايات ومنتصف القرن الماضي” بمثابة انطلاقة مثلى نحو الخروج من أسر اللغة القديمة التي أصابها العطب الفكري والتقوقع والسكونية المريضة كنتيجة مؤكدة لسطوة اللغة الطربية الحسية بما لها وعليها، وهذا ما استدعى من الموسيقي العربي أن يقرأ ملياً في أسرار الثورات الموسيقية التي قامت في موسيقات الشعوب انطلاقاً من الموروث القديم نحو الأخذ بأسباب الحداثة والتجديد العقلاني المعرفي، المبني على رؤية شاملة ومنفتحة نحو الآخر المختلف بغية اكتساب المعرفة والتعرف على أنماط وتقاليد عريقة وأصيلة في هذه الموسيقات جعلت منها منطلقاً لتحقيق هذه الرؤية وخاصة إذا ما علمنا أن هذا الفن يواكب الأزمنة ويرتحل في خصوصياتها وتوقها الدائم إلى التجديد والتمرد على لغة الجمود والتكلس الفكري، وانطلاقاً من هذه القراءات أخذ الموسيقي العربي في تبني نهج مغاير في الكتابة والتأليف مدعوماً بلغة موسيقية معرفية متقدمة، أتاحتها كما هو معلوم العلوم الغربية الكلاسيكية، بمناهجها المتقدمة ،وأصبحت الموسيقا العربية أكثر علمية ومنهجية بعد مراحل الارتجالات والفوضى التي لحقتها نتيجة تفشي الروح الطربية الحسية بطقوسها المغلقة.
هذا ما اجترحه بدايةً المؤسس الحقيقي للحداثة في موسيقانا العربية المعاصرة ،الشيخ سيد درويش ،في منجز إبداعي قد لا يتكرر ،حين فصل الموسيقا العربية عن المؤثرات التركية وهوامشها وتجلياتها على الذائقة والتذوق والإصغاء السليم ،والدخول في مشروع موسيقي تنويري يعتمد بشكل كبير على فهم عميق للعناصر الموسيقية الوافدة وإدماجها في العناصر الموسيقية الوطنية دون فرض أو قسر أو حتى استعراض مجاني فارغ ،وهكذا أنزل هذا المبدع الخلّاق هذه الموسيقا من برجها العاجي وطقوسها المغلقة، إلى الشارع والروح الشعبية الأصيلة ونبضها الإنساني المغُيّب ،فأصبحت معه ومع أبناء جيله ومريديه الكثر تنطق بلغة إبداعية وجمالية مغايرة تعكس آمال وتوق الإنسان العربي إلى فن راقٍ وإنساني يقول بملء صوته لا للأُذن الحسية المريضة ،ونعم كبيرة وممتدة لروح الأصالة المتجددة التي لا تقف كثيراً في منجزها القديم الذي تحقق إلا من منطلق التقدير لرمزيته وأبعاده الثقافية الدالة، ولعل عدم فهم الموسيقي المعاصر لهذا المنجز الإبداعي ودور الحداثة في تجديد لغة الكتابة القديمة، ما أدى في حقيقة الأمر وبعد مراحل التغريب التي أصابت لوثتها المشهد الموسيقي العربي آواخر القرن الماضي وبدايات هذه الألفية الثالثة العتيدة إلى خلق حالة موسيقية تتنكر لماضيها وإرثها الإبداعي بحجة التجديد ومواكبة العصر ،وبالتالي السير في مشروع العولمة وما بعدها والاندماج الكلي في منتوجها التجاري الاستهلاكي ،حيث تنتشر ثقافة الجميع ،أي ثقافة لا أحد ،أي بمعنى أصح، خلق وقائع وحقائق جديدة تخرج نهائياً من مفهومي الأصالة والحداثة ،وتكرس نمطية جديدة تتعارض كلياً مع دور الفن في الحياة حيث تغيب نهائياً الرسالة الإنسانية ،وبُعدها الجمالي والذوقي الذي كان سمة غالبة في نتاجات هذا الفن على مدار الأزمنة والعصور .
يسأل أحدهم :” هل المطلوب التخلي عن الثقافة العربية الموسيقية مثلاً ،لمصلحة الفن الغربي بحجة العولمة أو بالأحرى الأمركة والتغريب ؟! وهل الفن الهجين بات علامة الحداثة ؟ ولماذا أصبحت العين المبهورة مقياساً لنجاح الأغنية مع الفيديو كليب الاستعراضي بدل الأذُن المنصتة؟! هي أسئلة جريئة تشرح حال ومآل الموسيقا العربية وتحولاتها نحو النماذج الموسيقية العابرة وتسليع الفنون وبالتالي طمس الهوية الموسيقية الوطنية بمنتوج مستمر من الروح الاستهلاكية يفرضه اقتصاد رأسمالي مرعب عبر منصات إنتاجية وإعلامية هائلة باتت مع الأسف توجه مسار هذا الفن نحو كل ما يؤسس لقطيعة معرفية حقيقية مع الموروث والمقولات الموسيقية الماضية بما تمثله من أصالة متفردة اقترنت على الدوام بحداثتها التي حمت واحتمت بهذه الأصالة كمسير ثقافي منشود في كل الأزمنة الموسيقية الكبيرة.