الملحق الثقافي:محمد خالد الخضر:
“يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، يا أحفاد خالد وأبي عبيدة وسعد وصلاح الدين، إن ضمير أمتنا ينادينا وأرواح شهدائنا تستحثنا أن نتمثل معاني اليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت، وإن جماهير أمتنا من المحيط إلى الخليج تشخص بعيونها وأفئدتها إلى صمودنا العظيم، وكلها أمل وثقة بأننا إلى النصر سائرون”، هذا ما خاطب به القائد المؤسس حافظ الأسد أبطال النصر الذي كان علامة فارقة وسيبقى.
حول حبر الحرب والنصر، لنا وقفة مع النصر الذي تحقق.
الشعر
يتسع ليشمل النفس الإنسانية وتندرج تحت أجنحته كل أنواع المعرفة التي تعكس كيفية الحياة، فالشاعر كما يقول هيدغر: “الشاعر لا يخترع شيئاً، بل يكشف عن شيء ما، وعلى ذلك فإن الاكتشاف هو سمة خاصة لكل شعر عميق وصحيح”.
والنفس حسب مكنونات القرآن: هي تلك القوة العاقلة التي تتمتع بالفهم والفكر والمشاعر، حتى انبثق الشعر منها ليكون ديوان البشرية ورصد تحولاتها المعيشية التي يعبر عنها ممثل المجتمع “الشاعر” من خلال الأفراح والأحزان. وأمام هذا التفسير الجزئي للنفس والشعر نتحدث قليلاً عن خلجات النفس أمام كينونة الإنسان الذي خلق ليثبت وجوده من خلال إمكانات موجودة في خلقه المتنامي أمام يد الله المتكيفة في إبداع الكائن البشري.
فالحرب كانت منذ أن قتل قابيل هابيل إلى ترنم الشعراء بها وبانتصاراتها في العصر الجاهلي متجلياً ذلك عند أغلب الشعراء والشاعرات كعنترة العبسي وزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس، وشعراء العصر الإسلامي والمخضرمين كالخنساء وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وصولاً إلى العصر الأموي والعباسي والحديث، حيث انعكس الاحتلال والوجع والقهر على نفوس الشعراء، فظهر ذلك على أشعارهم الرامية إلى شحن النفوس وإضرام نار الجرأة والإقدام في نفوس المظلومين.. لتكون هناك معارك تعيد الحق لصاحبه وتزيل قهر النكبات والنكسات، إلى أن كانت حرب تشرين التي جعلت إسرائيل تقف أمام المرآة لترى حقيقة النفس العربية التي تأبى الضيم والذل كما وصفها الشاعر أحمد علي الحسن:
هات تشرين فالعزائم غضبى
يرفض الحر أن يذل ويأبى
وتبدأ الموهبة بالاختلاج والانبثاق؛ إنه الشاعر ذاته نزار قباني الذي توجع لنكسة حزيران وقال فيها: السر في مأساتنا
صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا أطول من قاماتنا.
تراجعت عواطفنا أمام الصراع الذي أرق مشاعره القلقة المنعكسة في نفسه الذائقة مرارة التحول العربية ليرى نبوءته قد صدقت عندما قال:
يا آل إسرائيل..
لا يأخذكم الغرور..
عقارب الساعة إن توقفت، لابد أن تدور.
هزمت الجيوش..
إلا أنكم لم تهزموا الشعور.
قطعتم الأشجار من رؤوسها..
وظلت الجذور.
وتنامى الجذر العربي ليقف الإنسان المنتمي إليه أمام عزته منتقماً لأصله ولإبائه وتبدأ ساعة القتال ويتقدم الجيش وتذهب القوافل تتقدم وتتقدم منها من يرفع الراية ومنها من يعود مضرجاً بدمائه الخضراء محققاً أجمل عزة حباه الله إياها ليكون شهيد الخلود ويتقهقر العدو أمام المعنويات الطالعة من السنديان والمتحركة على أنغام صهيل الخيول تترنم في أناشيد الدبابات الهدارة والطائرات الوثابة، ويتحقق النصر ليستجيب الشعب إلى هتاف قائد النصر عندما بدأت جماهيره تعبر عن فرحها بجذوة الانتصار. أجل لقد وعد الشعب بأناشيد الشعراء التي تعبر عن أكبر فرح وأجمل انتصار، ويأتي نزار قباني لينشد لتشرين وللشام في أنشودة عشق زاهية.. يقول:
هاهي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة وحور عين
والنوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكر مطحون
انتصرت نفس الشاعر على العزلة القاتلة والمليئة بمرارة حزيران وتراجعت الذكريات ليرتبط بالمكان الذي وعد بدمائه من أجل أن يبقى على حناياه فهو الوطن: مرابع الطفولة وتراكمات علقت بذهن وقاد يحركه الشعور الآخر الذي لا يملكه إلا الشعراء.. فها هو يقول:
شمس غرناطة أطلت علينا
بعد يأس وزغردت “ميسلون”
جاء تشرين إن وجهك أحلى
بكثير ما سره تشرين
مزقي يا دمشق خارطة الذل
وقولي للدهر كن فيكون
إلى قوله:
اركبي الشمس يا دمشق حصاناً
ولك الله حافظ وأمين
ويمتزج الورد والفرح الذي يجعل الشعور النفسي يجمع وحدات القصيدة على وقع أقدام الجنود مندفعاً كل الاندفاع ليعبر عن ذاته، فتسيطر الحالة الشعورية على سائر القصيدة وتخرج المعركة كأنها تطلع من زفرات الشاعر سليمان العيسى الذي يقول:
على أقدامنا سقط المحال
وأورقت الرجولة والرجال
سرايا من ترابك يا بلادي
نبتنا من شموخك مانزال
ولبيناك يا تشرين سلها
تلال النار تذكرنا التلال
مشينا والصواعق في خطانا
وعشب القادسية والظلال
نداء البعث في دمنا وغنى
على الجولان واخضر القتال
ويأتي إحساس النفس أمام الظواهر المتغايرة والمتلونة مع مسالة الوعي الموجودة والتي تتحرك أمام التوتر الخاص المفروض من وقائع الظواهر الخارجية، وهي مادة القدرة الكامنة التي يحفزها الشعور الواعي كقول الشاعر عبد الرحيم الحصني:
توالد الجد فيها والإباء معاً
فليس يعرف للإبداع أيهما
كلاهما من بذور البعث قد نبتا
ما أورق المجد إلا تحت ظلهما
فالشاعر أمام حالته النفسية ينتقل من وضع إلى آخر نتيجة انفعالاته المتدفقة استجابة لمتغيرات الظروف ومؤثرات البيئة التي تنطبع على تفكيره، ثم تتأهب لتخرج في اللاوعي لتعبر عن مكنونات الشاعر وحالته النفسية التي من المفترض أن تشتعل أمام اللحظة المقدسة التي تمنحه الانفراج الذي يحسم تماماً اتجاه الشعور المتعدد خلال التناقضات النفسية.. بالأمس كانت النكسة، واليوم جاء النصر فتتدافع المواقف والصور ويقف حامد حسن ليخاطب قائد الجيش والمعركة التشرينية فيقول:
تشرين لله ما أعطى وما وهبا
جاز النجوم مدى، واقتادها لعبا
مر الصباح ونيسان الربيع على تشرين
فاستوهباه زهوة وصبا
إلى قوله:
إن تغضب الأسد العوادي فلا حرج
يوماً على القدر العاتي إذا هربا
وكما وجدنا القصيدة الموضوعية في “النتفة” والنص المتكامل تدل على مدى ترابط النص بالإدراك الحسي المتنامي مع الانفعالات الداخلية وارتباط الجماليات الموجودة بالصور وسواها بالعاطفة. فثمة أشياء تتدافع لتقدم ما يريده الإنسان وما يتطلبه في قصوى انتظاراته أمام تأمله وترقبه وانتظاره أمام حالة الاستقرار والارتياح التي حققها بعد نص هو بداية وصول إلى انتصارات كاملة، مع قناعته أن جيشنا لم يعد يملك الاستعداد للعودة إلى الوراء، وهذا ما أثبتته الأيام بعد حرب تشرين. من أجل هذا قال الشاعر محمد كامل صالح:
دقي الدفوف فعرس المجد في بردى
أقامه للخلود الضيغم الحرد
يا قائد الزحف من كفيك قد سطعت
لنا على ليلنا الآفاق والبلد
أعدت رونقنا من بعد ما خمدت حمية العرب..
بل من بعد ما خمدوا
وينتاب الشاعر إحساس بالمسؤولية، فهو الممثل الحقيقي أمام حركة الزمن لمجتمعه وناسه فمن الواجب أن يتبنى رغبة من يتعايش معه أمام حتمية المصير الواحد والمستقبل المشترك، وهذا ما يجب أن تفرضه عليه مشاعره الأبية التي تكمن في داخله المليء بحب الناس والوطن، ولا بد لنا كبشر من أن ندرك أن الإحساس داخل النفس هو الذي يتفوق على كل شيء حتى بنية القصيدة ومكوناتها، وهي رؤية الشاعر صابر فلحوط التي شارك فيها مجتمعه وناسه قائلاً:
يا فارس البعث قل للناعقين على خطا
المسيرة جاء الصبح فانهزموا
هذي سراياك مات المستحيل
على خطواتها واستعز المجد والكرم
وينجح أيضاً في هذا المجال الشاعر فائق دردورة أمام سلامة قصيدته وجمالها فيقول:
يوم التقى تشرين موكب حافظ
نزلت تبارك ركبه العلياء
تشرين كلل بالمحبة وجهه
فالبعث يشرق نوره الوضاء
والنصر في تشرين كان حقيقة
بزغت لنا وتقهقر الأعداء
وثمة شاعر يستخدم الصورة ليجعل إدراكه الحسي أكثر قرباً وتعبيراً عن مكنونات الإنسان العربي فيما اكتسبه من فرح جعل النشوة تتعاظم في دمه محاولاً أن يشتغل على تمكين البصر من التعاون مع ساحة العقل في ولادة النص الإبداعي الذي ساعده خياله في تكوينه، وهذا سر نجاح القصيدة الشعرية في تقديم ما تريد إلى التاريخ بطريقة مليئة بالجماليات والعذوبة، وتصبح أيضاًَ عصية على التقليد أو الإهمال من قبل القارئ. يقول الشاعر عبد المجيد عرفة الذي يعبر عن حالة أخرى في الحرب والعطاء إلى الوطن:
والمجد يصنعه الأبطال في همم
لا يرتضون بأن يعطى لهم منحا
إلى قوله:
فشهر تشرين في تاريخ أمتنا
مجد تسامى إلى العلياء واتضحا
فالعطاء إلى الوطن لا يقدر بثمن، وتحدثت فيما مضى عن حالة النشوى بالانتصار والثأر لكرامة الأمة العربية، ولكن هناك أمر لابد من الوقوف عنده طويلاً هو بقاء كثير من الأراضي تحت نير الاحتلال وأهمها فلسطين والجولان، فالشعور والرغبة بالتحرير وإعادة ما تبقى يلهب ضمير الشعب أملاً بعودة تشرين آخر، جعل الشاعر محمد صالح أسود يتقمص الحالة وينشدها في قناعته الكاملة أن تشرين حرب لن تنتهي ما لم نحرر ما تبقى من أرضنا المغتصبة. يقول الشاعر مهدداً كيان الصهاينة:
يا دولة الشر إن العرب ما سقطوا
لا زال منهم أسود بالملايين
لا زالت النار بركاناً بأنفسنا
إنا سنجعلكم قوت الشواهين
لن نترك الأرض تدمى في مذابحكم
ترقبوا زحفنا في كل تشرين
ولابد للشعر من الانتباه إلى المتآمرين على مسيرة التحرير في محاولة إنهاك الصف الداخلي والحالة الشعورية القومية والوطنية للإنسان العربي فيتقاضون ثمن عمالتهم وتخاذلهم؛ إلى هؤلاء يقول الشاعر محمد الخضر:
وكلما عادت الغربان وانفتحت
على النعيق وفي أصواته نكد
تقول للجيش: اهدأ فالوغى ألم
وتبعث السم أو تبكي وتنتقد
بالأمس كانوا بصف آخر خرب
تبدلوا اليوم فانهاروا بما شهدوا
إلى قوله:
وكلما جاء تشرين يهيئنا
وتستعد بنا الأسياف والعدد
التاريخ: الثلاثاء6-10-2020
رقم العدد :1015