الثورة – هنادة سمير:
لم تعد الأمية في سوريا تقاس فقط بقدرة المواطن على القراءة والكتابة، بل باتت تتخذ وجهاً جديداً ربما أكثر تأثيراً في حياة الناس هو الأمية الرقمية، والتي باتت تطرح نفسها اليوم مع انطلاق مسار بناء الدولة الحديثة كواحدة من أكبر التحديات التي تواجه المجتمع السوري، وتفرض على الحكومة والمجتمع المدني التعامل معها كقضية مركزية في مشروع النهوض الوطني.
مفهوم يتجاوز المهارة التقنية
الخبير في تقانة المعلومات المهندس همام الآغا يبين في حديثه لصحيفة الثورة أن الأمية الرقمية لا تقتصر على الجهل باستخدام الحاسوب أو الهاتف الذكي، بل تشمل عدم القدرة على التفاعل مع الفضاء الرقمي بشكل فعّال وآمن، بدءاً من الوصول إلى المعلومات، مرورا باستخدام الخدمات الحكومية الإلكترونية، وانتهاء بفهم التهديدات الرقمية وحماية الذات منها، في عالم تسير فيه الحكومات نحو رقمنة كل شيء، يصبح الشخص غير الملم بالتقانة مواطناً غير مكتمل الحقوق.
ويضيف: لا يمكن لسوريا أن تدخل عصرها الرقمي فعليا إلا إذا ضمنت أن جميع المواطنين قادرون على التعامل مع الخدمات الرقمية، وإلا فإن الفجوة ستتسع أكثر بين الدولة ومواطنيها، وبين الفئات القادرة والفئات المستبعدة رقمياً.
إقصاء رقمي
ويوضح الآغا أنه بالرغم من أهمية الخطوة التي بدأتها بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية في السنوات الأخيرة في تقليص الفساد والبيروقراطية لجهة إطلاق بوابات إلكترونية لتقديم خدماتها عن بعد، منها دفع الفواتير، تقديم الشكاوى، أو حجز المواعيد، إلا أنها خلقت طبقة جديدة من المحرومين هم أولئك الذين لا يملكون المهارات التقنية الكافية لاستخدام هذه البوابات.
ويورد في هذا السياق معاناة آلاف المواطنين من كبار السن في التسجيل على الدعم عبر الانترنت خلال السنوات الماضية واضطرارهم إلى دفع الأموال لمن يبادر بمساعدتهم في إدخال البيانات المطلوبة ليتبين لاحقاً أن بعض المعلومات تم تسجيلها بشكل خاطئ حيث تكشف هذه الحالات عن الجانب المظلم من التحول الرقمي عندما لا يرافقه تمكين مجتمعي شامل.
فجوة في المناهج
ويرى خبير تقانة المعلومات أن أحد أبرز أسباب انتشار الأمية الرقمية في سوريا هو غياب منهجية تعليمية متكاملة لمهارات العصر الرقمي، فلا تزال معظم المدارس، خصوصاً في المناطق الأشد تأثرا بالحرب تفتقر إلى حواسيب وإنترنت، فيما تبقى دروس المعلوماتية نظرية أو غير محدثة، ولا ترتبط بواقع الطلاب العملي.
ويؤكد الآغا أن الأمية الرقمية ليست مجرد عقبة أمام الحصول على الخدمة، بل تعد أيضاً تهديداً للأمن الوطني.. فالمواطن غير الواعي رقمياً يصبح فريسة سهلة للاحتيال الإلكتروني أو ضحية للتضليل الإعلامي أو ناقلاً غير مدرك للفيروسات الرقمية والهجمات السيبرانية، ويشير إلى أهمية رفع الوعي الرقمي كجزء أساسي من منظومة الأمن الوطني ككل
استراتيجية وطنية
للتعامل مع هذا التحدي يقترح الآغا أن تتبنى الحكومة السورية الجديدة خطة وطنية شاملة لمحو الأمية الرقمية تقوم على دمج المهارات الرقمية في المناهج الدراسية منذ الصفوف الأولى، إطلاق مراكز تدريب رقمية في كل محافظة، بإشراف وزارتي الاتصالات وتقانة المعلومات والتربية والتعليم، كذلك توفير محتوى رقمي مبسط موجه للفئات الأقل تعليماً، عبر وسائل الإعلام كالتلفزيون والإذاعة ،وأخيرا تحفيز القطاع الخاص على دعم مبادرات التمكين الرقمي ضمن برامج المسؤولية المجتمعية.
ويؤكد أن محو الأمية الرقمية ليست مهمة تقبل التأجيل إنما شرط أساسي لبناء مجتمع حديث، يعدل بين مواطنيه، وفي سوريا ما بعد الحرب، يصبح هذا التحدي مضاعفاً، لكنه في الوقت ذاته فرصة حقيقية لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطن، على أساس نشر المعرفة، وحفظ الكرامة، والتمكين.