لا يمكن تفسير ما يفعله أردوغان في المنطقة أو غيرها من المناطق، أو تقافزه في البحار للتنقيب عن الغاز والنفط، لا يمكن تشخيص ذلك إلا بمرض التوجس والارتياب من انتهاء دولته كما انتهت أحلامه في الخلافة الإسلامية، وكما انهارت أطماعه في سورية وليبيا وشمال لبنان والعراق . فهذا الرجل يرتاب من أي شيء في الداخل المتربص به والخارج الذي يريد أن يضعه في حجمه الطبيعي .
ولو في دور الكومبارس في مسرح العالم الجديد الذي يمر بحالة مخاض عسيرة بعد الانهيارات الاقتصادية التي تتالت على الولايات المتحدة في عهد ترامب وبعد جائحة كورونا، فهذا العالم لم يعد قابلاً للحكم من الأحادية القطبية. الأمرالذي ينذر باندلاع حرب مع الصين حيث يتوقع الخبراء أن تتوسع إلى حرب ربما تكون حأقرب إلى العالمية ح، مع أن دولاً عديدة كانت حليفة لأميركا أصبحت ترى أن مصيرها مهدد بحكم تبعيتها لأميركا ترامب .
إن النزاع على إقليم ناغورني كاراباغ بدأ في بديات القرن الماضي لأنه تم حله بإعطاء الإقليم لأذربيجان بالكامل، لكن مع وجود الاتحاد السوفييتي كان الوضع مسيطراً عليه ، وبعد تفككه عادت النزاعات وحصدت نحو 30 ألف إنسان، وانتهت في العام 1994 الحرب بخسارة أذربيجان للإقليم الذي يسكنه 90%من الأرمن وظلت الأوضاع هادئة ومستقرة ، ولم يكن بالامكان تحريكها إلا بعوامل دولية ترتبط بمصالح نفطية وغازية تتخطى طرفي النزاع المباشر .
فالواقع كان قائماً على قاعدتين الأولى أرمينية تعتمد على “حق الشعوب في تقرير مصيرها” ولهذا فقد اختار أهل ناغورني كارباخ (ارتساخ) الحكم الذاتي المرتبط بالأمة الأرمنية، والثانية أذربيجانية تتمسك بالسيادة على الإقليم وحقها في المحافظة على وحدة أراضيها التي عمل بها الاتحاد السوفييتي أيضاً عندما كان قائماً وجعل الإقليم جزءاً لا يتجزأ من أراضي أذربيجان. وهكذا نرى أنّ الحسم على أسس القانون الدولي العام أمر ليس بالهيّن رغم بعض قرارات مجلس الأمن الملتبسة .
إنّ التدقيق في هذا الواقع يجعلنا نجزم بانتفاء احتمالات التسوية، فالعوامل الدولية التي تتولى التفجير لا ترغب بالحلّ، بهدف إرساء واقع جيوسياسي جديد للمنطقة يخدم استراتيجية الضغط على روسيا وتطويق إيران عملاً بسياسة الضغوط القصوى الأميركية والإطاحة بالتوازن الهش القائم في العلاقات بين إيران وتركيا التي ترى في هذه الحرب طريقاً لتحقيق جملة أهداف عسكرية سياسية واستراتيجية واقتصادية، فهي تريد أن تؤدّب أرمينيا كما يردّد الأتراك في أدبياتهم السياسية، وتسيطر عبر أذربيجان على عقدة جغرافية ستمرّ فيها أنابيب الغاز الى الغرب، وسيزيد ذلك الخناق حول إيران من الشمال . كما ترى تركيا أنّ ناغورني قرة باغ ستؤمن لها مكاناً مناسباً لنقل أكثر من 5000 مسلح من سورية هي بحاجة إلى إخراجهم منها بعد حسم معركة إدلب .
هذا الوضع فجّره الأتراك للحصول على مكاسب منظورة أو خفية هو على قدر من التعقيد يجعله خارجاً عن متناول يد أحد. فإيران وروسيا ليستا في موقع ضعيف يجعلهما يسلّمان بالاهداف التركية التي يخيل لأردوغان أنه سيحصل عليها كجائزة ترضية تعوّض خساراته، لكن هذا الهوس مهما كان مسنوداً من قوى خارجية مآله الفشل ، وربما تكون فيه نهاية أردوغان، فالمسألة أكبر من أن تحل بمؤتمرات وتسويات من النوع الذي دعت إليه موسكو الذي لن ينتج سوى الهدنات .
إن غداً لناظره قريب
معا على الطريق- د. عبد الحميد دشتي