إفتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
مَرات عديدة تَنقلت الولايات المتحدة بين حَدي التهديد باستخدام القوّة والخيار العسكري، وبين التهدئة المُفخخة، بالذهاب مرّة لجنيف وفيينا ومرّة بالقبول والاعتراف بمسار أستانا، غيرَ أنّها في كل المرّات والحالات كانت تُمارس المُماحكة، وتَنظر للأمر من زاوية أنّ ما استعصى هنا وهناك يَقتضي فسحة جديدة للمُماحكة، ذلك كان يبدو أمامها خياراً إلزامياً في ظل عدم الجاهزية لمُواجهة التحديات التي يَفرضها خيار التهديد بالقوّة وتصعيد العدوان.
منذ بدايات مُخططها الإرهابي باستهداف سورية، مارست واشنطن أنماط المُماحكة صعوداً وهبوطاً بطرح خيارات التهديد والتهدئة، خصوصاً عندما كانت تَجد نفسها- مع كل من حَشدتهم واستخدَمتهم- مَحشورة في زاوية صعبة، هي الزاوية التي أَنتجت جنيف وفيينا وأستانا وسوتشي، وهي الزاوية التي فَتحت سجالات مُعقدة عَطلت حيناً تفاهمات واتفاقات، وبَلغت حيناً آخر حدود إغلاق قنوات التواصل واحتمالات حصول الاحتكاك الخشن المُباشر.
خلال سنوات الحرب والعدوان، على التوازي من الإنجازات العملاقة التي حَققها جيشنا الباسل وحلفائه بدحر الدواعش والمُرتزقة، جَرت اتصالات دولية إقليمية مُتعددة، وأُتخمت الفَضاءات السياسية والإعلامية بالكذب والنفاق الأميركي- الأطلسي وتَفجرت الخلافات لتَصنع بُؤر نزاعات هنا وهناك، تَصاعدت معها حروب الاقتصاد والعقوبات الأميركية أحادية الجانب، فكانت المُماحكة الثابت الوحيد ربما بسياسات واشنطن الحَمقاء بَحثاً عن فسحة جديدة تلعب فيها، للخروج من المأزق أو لالتقاط الأنفاس وإعادة تجميع الأوراق، لكن بالمُطلق ليس لتَستفيد من الدرس اندفاعاً لإجراء مُراجعة عَميقة للسياسات والخيارات!.
الأغراضُ الانتخابية، الرئاسية منها والنِّصفية للكونغرس، مُناسبات اقتَضت أيضاً الكثير من المُماحكة باستخدام فَوائض النفاق والفَبركة، ليَبقى المسار الأميركي ثابتاً واحداً تَرجمتُه الحَرفية مُمارسة المزيد من البلطجة والقتل والعدوان، نشر الإرهاب والاستمرار برعايته وتَسمينه، ومحاولة تَمكينه، الأدلةُ في ذلك مُتوفرة بكثرة.
على الرّغم من أنّ السياسيين والعسكريين المَسؤولين بالبيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون يُواجهون الفضائح واحتمالات المُحاكمة والمُحاسبة على ما ارتكبوه من جرائم مَوصوفة قد جَرى تَوثيقها بدقة، إلا أنّ أصحاب المَسلكية المُشينة- هؤلاء- لم تَتَبدل، بل يَستغرقون فيها بخَوض مماحكات علَّها تُتيح لهم فسحة إضافية لا للتملص من المسؤولية والفرار من العقاب فقط وإنما للتطاول مُجدداً ولارتكاب المزيد من الجرائم والتجاوزات.
بمُواجهة أساليب واشنطن بالمُماحكة وأنماط تعاطيها مع القضايا والملفات القائمة يَنبغي للعالم، للقوى الدولية والإقليمية الأخرى، أن تَلجأ لعمل مُختلف لا يَكتفي بإحراج الولايات المتحدة ومُحاصرتها بالوقائع والأدلة، ولا يَقبل بإتاحة المجال أمامها لمماحكات لا طائل منها سوى ما يَمنحها فرصة كسب الوقت والمُماطلة، ذلك في كل مرّة تصلُ فيها المُباحثات والاتصالات لنقطة مفصلية مهمة تتجاوزها واشنطن بجعل الطرف الآخر يَقف أمام خَياري انهيار المُباحثات أو القَبول بالمُراوحة عند ما تَوصلت إليه، بينما يَجري الإعداد أميركياً لإغراق الملف المَطروح بتفاصيل وجُزئيات إضافية مُفتعلة تَفتح على مَتاهات جديدة.
لمَرة واحدة، مَطلوب أن يكون الأداء العالمي مُختلفاً مع واشنطن- استثمارها بالإرهاب أنموذجاً- ليَجري تَسجيل سابقة لا شكَ ستُؤسس للكثير من العمل المُجدي الذي من شأنه أن يُغلق عليها أبواب كل مُماحكة، وأن يَطوي حقبة العَجرفة والتَّفرد والاستعلاء والتطاول، وما لم يَجر تَسجيل ذلك فعلى الأطراف الدولية أن تتوقع الأسوأ لا أن تنتظر تَراجعاً طَوعياً ممن يَمتهن الإرهاب والعدوان، ويَحترف السرقة والنهب، مُستخفاً بالآخر، روسياً كان أم صينياً أم شَريكاً أطلسياً حتى!.