الثورة أون لاين- علي الأحمد:
من جديد يطرح العديد من الباحثين العرب أسئلة مهمة حول قضية التراث والحداثة في موسيقانا العربية. وهي قضية أخذت كماهو معلوم، الكثير من النقاشات والنقد، من دون التوصل الى حلول واقعية، تنتشل هذا الفن من أزماته ونكباته المستمرة، التي هي إحدى تجليات هذه القضية الثقافية الشائكة التي لم تجد الى يومنا هذا الاهتمام الكافي والإرادة الصادقة، بمايخدم حركة ومسار هذا الفن في ألفيته الثالثة. لكن هل صحيح ،أن تراثنا الموسيقي العربي فقد حضوره ومكانته في الحياة الموسيقية المعاصرة ،بسبب مقولاته الذوقية الماضية ،التي لم تعد تواكب العصر ومساراته “الغرائبية العبثية” ،كما يعتقد العديد من الباحثين ومؤلفي الموسيقى المعاصرين؟ !
بالتأكيد، لايخلو المشهد المعاصر ،من ومضات إبداعية عبر كتابات معاصرة لموسيقيين عرب يؤلفون موسيقى عربية بديلة للسائد المعمم، ،تستقي مرجعيتها ،من هذا الموروث المُغيّب ،والمُهمل الى حد الفجيعة ،ولا عجب هنا ، إذاً، أن نرى الأجيال الشابة الفتية ، لاتعرف شيئا عنه ،وعن الظروف التاريخية والاجتماعية التي شكلت روافده الابداعية ،وهذا بدوره يطرح علامات استفهام وتعجب لاتنتهي ،فمن المسؤول عن تغييب هذا الإرث الابداعي العظيم ،الذي اجترحته ذهنية فكرية وفلسفية ومعرفية ،على مدار الحقب والأزمنة ،وكان على الدوام عكس ماهو شائع ومتداول، يحوي بين طياته حداثته المنشودة التي حمت أصالته على الدوام ،في عملية فهم وإدراك معرفي، لمغزى ومسار الحداثة والتجديد العقلاني في كل المدارس والتقاليد الموسيقية العربية بمختلف توجهاتها وآفاقها المستقبلية؟ .
هذا الفهم العميق لتناغم التراث مع الحداثة لم يكن ممكناً، لولا هؤلاء الفرسان النبلاء، الذين كشفوا وأضاؤوا الجوانب المشرقة منه، وأقاموا جسوراً ثقافية ومعرفية بينه وبين مسارات الحداثة التي استفادت من هذا الموروث الغني بتقاليده وأنماطه وتنوع مدارسه الابداعية، عبر البحث الدؤوب عن الصيغ والعناصر التي تقرأ في نتاجات هذه التقاليد المشتركة مابين الموسيقى الفنية التقليدية والشعبية الأصيلة، التي شكلت روافد مهمة في عملية الحداثة والتجديد العقلاني المبني على هوية موسيقية عربية مائزة ومتفردة ، لاتنسى جذورها وأصولها الراسخة في ذاكرة هذا الفن الجمعية.
وهكذا كان لابد من تجاوز الصراعات والتحزبات التي قامت ولاتزال قائمة بين تيارات المحافظة على هذا التراث وعلى خصوصيته، وبين دعاة الحداثة والتجديد المعرفي،وهنا لابد من الإشارة الى أن هناك الكثير من عناصر التراث قابلة للحياة والتجدد المعاصر إن أحُسن قراءتها وإضاءة حضورها في مسرى الثقافة العربية المعاصرة ، وهناك من دون أدنى شك عناصر أصابها الوهن والعجز عن مسايرة العصر ومواكبة تطوره المعرفي وبالتالي يجب التفريق بينهما كي يتم حصد النتائج المتوخاة والمرجوة، من هذه القراءات المتعددة لهذا التراث الأصيل الذي لم يكن يوماً ما، ضد الحداثة والتجديد المعقلن،المبني “كما أسلفنا” على المعرفة والعلم الذي أفضى الى كتابة موسيقية معاصرة، لاتتنكر لماضيها التليد، بل تقيم معه حوارات وقراءات مستفيضة تؤكد على خصوصية الابداع في الهوية الموسيقية العربية والانطلاق منها نحو تخصيب وإغناء هذه الكتابة برؤية معاصرة ذات توق عالمي، منفتحة على ثقافات العالم تؤكد على أهمية التثاقف والحوار الحضاري مع الآخر المغاير كبديل للغة الاستهلاك السائدة، والنسق الثقافي الواحد الذي تتبناه وتدافع عن قيمه المادية منظومة “العولمة” ومابعدها . يقول الباحث الراحل الدكتور “محمد عابد الجابري” في كتابه المهم “التراث والحداثة” :”والأصيل بعد ذلك لايكون أصيلاً إلا إذا كان ذا دلالة في الحاضر. والجوانب الأصيلة في أية ثقافة، هي تلك التي نستطيع أن نتبين فيها، ليس فقط التعبير القوي المبدع عن بعض معطيات الماضي، بل أيضاً التي تستطيع أن توحي لنا بنوع من التعبير جديد عن معطيات الحاضر. الثقافة الأصيلة هي التي يجد فيها الحاضر مكاناً فيما تحكيه عن الماضي، دون ان تحجب آفاق المستقبل. إنها تساعد على تأسيس الحاضر في اتجاه المستقبل، لا في اتجاه الماضي.