القاصة والروائية ابتسام تريسي لـ “الثورة”: الرواية “الثورية” سجّلت الحقيقة وأرّختها في ذاكرة الأجيال
الثورة – أحمد صلال- باريس:
عرفت الثورة السورية عدة أفلام نسوية في الساحة الروائية، أحد هذه الأسماء وأبرزها الروائية السورية ابتسام تريسي، تقارب الكاتبة سيرة حياة نساء سوريات حملن شرف لقب ثائرات، بلغة جعلت أحداث حياتهن سيرة تسمع وحركة تنظر، إنها سيرة لا يمكن نسيانها ولا السهو عنها، إنها سيرة الثورة يجسدها نتاج روائي، سيرة التاريخ وسيرة الذاكرة، فكأن الثورة هي ملاذ لشخصيات روائية نسوية جديرة أن تبقى في الذاكرة.
صحيفة الثورة كان الحوار التالي مع القاصة والروائية ابتسام تريسي.
– كيف كانت بداية شغفك بالكتابة؟
حين بدأ أبي تعليمي الكتابة، وأمسك يدي لأخطّ أوّل الحروف “بخطّ الرقعة” الخط الذي تعتمده المدرسة في التعليم، بدأ اكتشافي للعالم، كان أبي يصرُّ في كلّ مرّة أكتب فيها ولا يعجبه الخطّ على إعادة الكتابة، لم يكن أبي خطّاطاً لكنّه يكتب بخطٍّ جميل أورثني إياه موقِّعاً أوّل خطوة في بناء شخصيتي، وحبي للكتابة.
وكانت أولى محاولاتي كتابة قصة وأنا في الصفّ الرابع “ابتدائي” أعطيتها لأبي وأنا خائفة من رأيه.
لم يقل أبي شيئاً، أعادها لي من دون تعليق مما زاد ارتباكي وخوفي حدّ شعوري أنّي فشلت في الكتابة، وأنّها لم تعجبه، لكنّ المفاجأة كانت عصر ذلك اليوم عندما جاء أصدقاء والدي لزيارتنا، وهي عادة أسبوعية، ناداني أبي بعد أن اكتمل العدد، وكانوا جميعا يشربون الشاي، والبعض يدخّن، وضحكاتهم تملأ الفضاء.
قال لي أبي: “هاتي قصتك، وتعالي”.. كان قلبي الصغير يخفق بشدّة.
جلبت الورقة، وناولتها له، قال: “لا، اقرئي القصة”، كنت أرتجف، لا أعلم كيف خرج صوتي، وكيف قرأت، لكنّني أذكر أنّ دمعة غافلتني في النهاية، ونزلت من عيني، كانت القصة عن رجل فقير رأيته مرّة في السوق يتسول.
الجميع كانوا ينصتون إليّ، أوّل المتكلمين كان “أستاذ أبي وصديقه مدرّس اللغة العربية هاشم مجني” قال: “فرخ البط عوّام، هذه البنت لها مستقبل، ستكون وريثتك، ربّما تحقّقُ ما لم تحقّقه أنت”.
– حملت الرواية السورية بعد الربيع السوري طاقة تحاورية عالية على جنبات الموت والقهر والتشريد والاعتقال، فقد أصبحت وسيلة للنضال ضد أحد أعتى النظم العسكرية الطائفية الأكثر إجراماً في التاريخ الحديث.. هل في هذا السياق يمكن قراءة روايات الروائية ابتسام التريسي؟
أنتَ أوجزتَ الحكم على الرواية السورية، واقتصرته على جانب واحد من جوانب الصراع، إذا أردنا أن نتحدث عن الرواية “السورية” من منطلق الجغرافيا، فقد حملت أيضاً الجانب الآخر، أي أنّ قسما منها أضاع البوصلة، وكان سوطاً بيد السلطة، وهناك جزء وقف بين الاثنين ما نستطيع تسميته “بالرمادي” وهذه الرواية من أخطر الأنواع، فقد اعتمدت على تمييع الحقائق، وتشويهها، وخلط الأوراق بطريقة تدخل الشك في نفس القارئ، وتجعله يتبنى الحياد.
أمّا الرواية “الثورية” فقد امتلكت رؤية واضحة وسجّلت الحقيقة، واستهدفت أن تكون ذاكرة وتاريخا للأجيال القادمة.
بهذا الإطار يمكن قراءة عشر روايات مما كتبته بعد الثورة، أولها مدن اليمام، وآخرها ليلاف.. تناولت فيها ما حدث خلال ثلاثة عشر عاما من تاريخ الثورة، ربّما لا تملك الرواية الثورية حلولاً سحرية، ولا تستطيع إسقاط نظام فاسد، لكن يكفي أنّها كلمة حق في وجه سلطان جائر، إن صح أن ما أسميته نضالاً فأعتقد أن الروائي الحق لا يهتم كثيراً بمسألة النضال بقدر اهتمامه بإبراز صورة الحق الإنساني في الحياة، وهذا ما جعل كُتَّاب الثورة يظهرون بمظهر المناضلين ضد آلة العنف التي كانت تحصد الأرواح بطرق همجية غير مسبوقة، في وقت غاب فيه الحوار تماماً، ولم يكن هناك أي طاقة تحاورية بين طرفي الصراع- كما ذكرت بموضوع الموقف الرمادي- فقد كانت روايات الطرف الثاني تعيش حالة الصراع هذا، وتحاول التشكيك بصدقية الثورة معتمدة على ما يقع من أخطاء لدى الثوار، وبالتالي هم يحاولون إثبات سردية مغايرة تماما تُظهر المجرم بمظهر المدافع عن الحق.
-الزمان والمكان والشخصية وسماتها، أشياء ميزت أيدلوجية أعمال الكاتبة السورية ابتسام تريسي، وفي روايتك (بنات لحلوحة) كيف انتقلت تريسي من السرد الكلاسيكي إلى السرد المفتوح، السرد الذي يسعى لمعالجة كل موضوعاته دفعةً واحدةً: عن المرأة الزواج والطلاق والحب والموت وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والثقافية وغير هذا وذاك؟
بنات لحلوحة كانت بالنسبة لي أكبر تحد في إعادة صياغة التاريخ روائياً خلال قرن من الزمان، بذلت فيها جهداً جباراً، وعملاً متواصلاً استمرَّ سنتين، حرصت خلالها أن أعيش حياة الشخصيات بكلّ تفاصيلها، كانت كتابتها مرهقة إلى حد كبير، أعتقد أنّي نجحت في ذلك التحدي إلى حد ما، فلم أفلت خيطاً واحداً من حيوات الشخصيات، ودرست الأمكنة والزمان والتاريخ الذي مرّ عليها دراسة دقيقة، مكنتني من صياغة الرواية من خلال بيئتها الطبيعية.
مما لا شكّ فيه أني استطعت تقديم شخصيات من لحم ودم مستندة إلى شخصيات من الواقع أعدت رسمها وغيّرت في مسار حياتها، كي تتناسب والحدث في الأزمنة المشار إليها في الرواية، كان دافعي الأهم لهذه العودة إلى الجذور هو ما نعيشه في هذا الواقع من بؤس على كل الأصعدة، وأعتقد أن هذا البؤس، وهذا الواقع هو في محصلة الأمر “نتيجة” وكي نفهم النتائج لابدّ من معرفة وفهم المقدمات، وتحليل مكونات الطرف الأول من المعادلة، لقد وجدت بعض البذور الأولى في رواية جبل السماق، سوق الحدادين، واستطعت بجهود بحثية كثيرة جداً في الماضي القريب وبما أمتلك من مخيلة أن أستنبت هذه البذور لخلق ثمرة أسميتها “بنات لحلوحة” لأكمل المشروع الروائي الذي يستحوذ على اهتمامي والمتمثل برصد هذه التحولات العميقة في البنية الاجتماعية، والسياسية، والثقافية التي يعيشها المجتمع السوري، والتي فرضت عليّ الشكل الفني للرواية.
ترصد تريسي فترة مهمة من تاريخ سوريا الثوري، كما تعالج غموض وعدم ثبوتية النفس البشرية حيث تتشكل علاقات اجتماعية وإنسانية ترزح تحت قدرية ثنائية للموت المتربص بحياتنا والحرب وتأثير ذلك كله على خيارات الحياة وحاجاتها وخساراتها ولاسيما في الحب، حدثني تريسي عن ذلك روائياً؟
ستجد ذلك فعلاً في مدن اليمام، انطلاق الثورة السلمية، وانتقالها إلى التسليح فيما بعد، لماذا حمل الشباب السلاح؟ تلك التغييرات التي طرأت على الثورة التي كانت عبارة عن لافتات، ومظاهرات تطالب بإسقاط النظام، وتحولت إلى ثورة مسلحة بسبب ارتكاب السلطة المجازر وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. ليس من السهل أن يتحوّل شاب يملك فكرا تنويريا، ويحلم بدولة ديمقراطية إلى شخص يحمل السلاح مالم تسحقه آلة النظام الوحشية، وتجبره على حمل السلاح بدل الورد، التبدلات التي حصلت لشباب وصبايا الثورة في علاقاتهم الثنائية والاجتماعية بسبب الاعتقال، والحرب، والدمار، كانت كارثية في المطلق.
في “ليلاف/ الثلج الذائب” الرواية التي رصدت كلّ التبدلات الحاصلة في الشمال من معارك، وانقسامات بين الفصائل الإسلامية والميليشيات الكردية، واحتلال الرقة.
حصلت تبدلات في الحب لبطلي الرواية، العربي تيم، والكردية ليلاف، اللذان انتهت علاقتهما بسبب الانتماء السياسي إلى معسكرين متحاربين، قالت ليلاف لتيم “في الحرب أنت عدوي”، قال لها “في السلم كنّا مشروع حبيبين فرقتهما السياسة القذرة”، رأت ليلاف أن لا شيئاً يمكنه أن يستبدل الموت بالحياة، ولا شيء يمكنه أن يجعلها تتخلى عن قضية قومها حتى الحبّ!
في السلم يمكن للعلاقات الإنسانية السير إلى النتيجة بفعل المكونات والعوامل الداخلية للعلاقة بين الطرفين، لكن في الحرب يُضاف إلى تلك المكونات والعوامل مؤثرات خارجية قد تكون مدمرة- إن اختلف الموقف السياسي، كما حصل مع تيم وليلاف.
تحوّلت ليلاف إلى ثلج جاف، فكلّ ما هو صلب يتحوّل إلى أثير، وأدار تيم ظهره للشمس، وعاد أدراجه إلى حيث الحرب والظلام.
– هناك جيل شبابي يحب الكتابة، ولكنه لا يعرف كيف يظهر أعماله إلى النور، ما هي النصيحة التي تقدمينها إليه؟
حتّى الكتاب الكبار “سناً وخبرة”، بدؤوا يعانون من شح فرص النشر بسبب تغول دور النشر وسيطرتها التامة على تجارة الكتاب، أصبح الكتاب مجرد سلعة يجب أن تحمل مواصفات محددة ترضي الذائقة التي تروّج لها دور النشر والمؤسسات الثقافية عموماً.
الآن وبعد عشرين عملاً مطبوعاً أعاني من التعامل مع دور النشر، منذ أربع سنوات كتبت روايتين لم تنشرا بعد، والسبب أن دور النشر تبحث عمن يدفع لها تكاليف الطباعة، وتأخذ هي حقوق النشر كاملة، وتقاسم الكاتب على مبلغ الجائزة إن فازت روايته بجائزة، وهذا يعني أنّ الكاتب الشاب أمامه طريقان: إن أحبَّ الشهرة عليه أن يتبع تعاليم دور النشر ومطالبها في الكتابة، وإن أراد كتابة الحقيقة، ليكتب كما يريد، ولا يفكر هل سيرى الكتاب النور أم لا؟ وهل سيجد قارئاً أم لا؟ متسلحاً بأمرين الصدق في الكتابة، والإيمان بالموهبة والهدف.