الملحق الثقافي:رشا سلوم:
مما لاشك فيه أن العلاقة الجدلية بين الثقافة والتربية، هي قوة ودافع التطور والعمل والنماء. ومن يعد إلى عصر النهضة العربية أو لنقل محاولات النهضة، فسيجد أن معظم المفكرين وصناع الثقافة، هم مفكرون ومربون من طراز رفيع، من الحصري الذي أسس لنهضة تربوية شاملة، وضع رؤى لاستراتجية ثقافية عربية، إلى الراحل عبد الله عبد الدائم، طبعا مروراً بمحمد كرد علي، وكثيرين، والياس مرقص، والقائمة تطول وتطول، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تم الفصل بين الثقافة والتربية قسراً، أم إهمالاً حتى لا نصل إلى القوة الفاعلة والمحركة في المشهد الثقافي والتربوي؟
في الجعبة الكثير من الآراء التي لم تفصل بين التربية والثقافة، بل ترى أن الثقافة أسّ التربية وهي المحرك القوي والفعل الحقيقي للتطور والنهوض، ومن هذا الباب نذكر بما قاله المفكر السوري عبد الله عبد الدائم، حيث يرى:
«التعريف الأنثروبولوجي الواسع للثقافة يرى فيها (جملة النشاطات والمشروعات والقيم المشتركة التي تكون أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم، والتي ينبثق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية، يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، هو الذي تبنى على أساسه مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد».
هذا الإرث الثقافي المشترك يغتني عبر الزمان ويتجدد. وكل إرث ثقافي لا يتجدد، معروض للتخلف والضعف والموت.
التحديث وليس التغريب
وتجديد الثقافة العربية الإسلامية لا يعني (التغريب) أي مجرد تقليد الغرب، بل يعنى (التحديث) تحديث هذه الثقافة العربية الإسلامية من داخلها ومن خلال ذاتها عن طريق تفاعلها مع الثقافات الأخرى في العصر.
ومن هنا نؤمن بضرورة تلاقح الثقافات، ولكننا لا نؤمن بعولمتها، فعولمة الثقافات تعني (تسطيحها) جميعها وتعني القضاء على الألحان المتنوعة التي ينبغي ان تضمها (سيمفونية) الثقافة العالمية الإنسانية المرجوة.
وغني عن القول إن الثقافة العربية الإسلامية ثقافة غنية رفيعة، وعندها الكثير مما يمكن أن يغني الثقافات العالمية المختلفة، ويسهم في تطوير ثقافة إنسانية مشتركة، تساعد على خروج العالم من محنته.
غير أن هذه الثقافة العربية تحمل في بعض جوانبها الآثار السيئة التي خلفتها فيها قرون من التخلف السياسي والاجتماعي والعلمي. ومن هنا تواجه هذه الثقافة اليوم مشكلات عديدة تعرقل تجديدها. منها:
أ-عراقة الثقافة العربية الإسلامية، هذه العراقة التي تمنحها القوة والقدرة على البقاء ما في ذلك شك، ولكنها قد تكون أحياناً عبئاً ثقيلاً معرقلاً للتجديد، حين لا تفهم فهماً حياً متجدداً، وحين تنقلب إلى نزعة انكفائية، على حد تعبير (توينبي)، فالثقافة كائن حي، وهي ككل كائن حي عرضة للضعف والزوال، بل الفناء إذا لم تتجدد.
ب-ازدهار الثقافة العربية ينتسب إلى ماضيها البعيد منذ ظهور الإسلام بوجه خاص، وأوج تفتحها الحضاري انقضت عليه خمسة قرون على أقل تقدير (إذا أخذنا في الحسبان حضارة الأندلس). وهذه الحقيقة تولد نوعاً من الانتماء الماضوي يصبح التجديد في إطاره أصعب منالاً.
ج-المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجوة مشاركة لا تزال محدودة جداً.
د-محاولات تحديث الثقافة العربية اليوم لا تتم في معظم الأحيان من داخلها.
من هنا لا بد من جهود جادة لتجديد الثقافة العربية من داخلها. وهذه الثقافة كما نعلم تتسع- من خلال منطلقاتها نفسها- لشتى أنواع التحديث والتجديد. وليس فيها -كما يقول المستشرق (ماكسيم رودنسون) ما يناقض مطالب العالم الحديث (وهو علمٌ كان رواده الأوائل من أبناء تلك الثقافة العربية الإسلامية، بل كانت منازعة التجريبية من صنع تلك الثقافة على نحو ما يبين (فانتيجو) Ventejouxفي كتابه (المعجزة العربية). أولم يذكر الإمام الشاطبي الأندلسي في كتابه (الموافقات) أن من فروض الكفاية (أن يوجد في كل بلد من يسد حاجته من المأكل والمشرب والصناعات المختلفة)؟
التلاقح الثقافي
ومجالات التلاقح والتفاعل بين الثقافة العربية وبين الثقافة الغربية واسعة رحبة، لا يتسع المجال للتفصيل في عناصرها. وحسبنا أن نشير عابرين إلى مجال (القيم) وهو مجال قيل فيه الكثير ويتسع لمؤلفات عديدة. وحسبنا-من قبيل المثال- أن نذكر أن بين الذين يتحدثون عن القيم الإنسانية اللازمة لعصر العلم والتقانة، من يؤكد- عن غير دراية منه- أهمية قيم هي على رأس القيم التي أكدتها الثقافة العربية الإسلامية، فها هو ذا المفكر الألماني (هابرماس) يرى في (المسؤولية) رأس القيم اللازمة لعصرنا.
وهاتان القيمتان (الحوار والمسؤولية) هما من أبرز القيم التي أكدت عليها الثقافة العربية الإسلامية منذ ظهور الإسلام. والتفصيل في هذا المجال يستغرق الصفحات بل المؤلفات الكثيرة. (من الأمثلة-وهي غيض من فيض- ما ورد في الحديث الشريف (حول المسؤولية): (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله)، وما ورد في حديث شريف آخر: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وما جاء في القرآن الكريم (حول الحوار): (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
التاريخ: الثلاثاء3-11-2020
رقم العدد :1019