الثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
هل تهاجر الأفكار؟!. سؤالٌ لا أعتقد بأنه يحتاج إلى إجابة لدى العارفين بأن علوم الحضارات لا تنتقل بأفكارها ورؤاها وخبراتها بين الأفراد فقط، وإنما أيضاً بين الشعوب التي تهاجر بهذه العلوم إلى مختلف عوالمها، والتي تحرز فيها من النجاح والتقدم والمعرفة، ما يجعل الحضارة التي تنتمي إليها، من أرقى وأكثر الحضارات كمالاً وابتكاراً، وسواء للأفكار الجديدة، أم حتى للحضارات التي تنبثق منها وتعاود أفكارها الهجرة، وصولاً إلى امتلاكها لكل مقومات قوتها ونهضتها.
إذاً، الأفكار تهاجر لتتطور وتتجدد، وليس بالضرورة أن يتخذ هذا التطور الشكل الإيجابي، فقد تعتريها أثناء هجرتها انتكاسات، تؤثر عليها بشكل سلبي.
هذا بعض ما يتناوله الكاتب والمؤرخ الإسكتلندي «جلبرت هايت» في كتابه «هجرة الأفكار» الذي أكثر ما يهمنا فيه، ما يحكي فيه الكاتب عن أهمية كتابة تاريخ العالم، بعبارات من حركة الأفكار التي تنتقل من جماعة إلى أخرى، وعن طريق مؤرخ يعتمد في رؤاه، على ما يزود القراء بـ «ما يحتاجون إليه من الثقة بالعقل البشري ومستقبل البشر» لطالما، يعيشون في وحدة كونية ترتبط ببعضها البعض، عبر تيارات ثقافية وفكرية، تتحرك حول العالم كله، لتربط بين العقول وتوحدها ضمن عقل واحد هو العقل الجبار والخارق للطبيعة.
إنها دراسة التاريخ، بل ضرورة أن يكتب بعبارات من الأفكار التي لا تنتكس في هجرتها عبر الحضارات، بل ترتقي متجاوزة الحروب والاقتتالات.. ضرورة أن يكتب، بعد اتصال الحضارات اتصالاً لا ينطوي على العنف والتفرقة، وإنما على التفاعل والتداخل بين مختلف الثقافات، وبطريقة سلمية وتعليمية، ترسم صوراً معينة لقوانين الإشعاع الثقافي والعلاقات الإنسانية.
لا شك أنه موضوع يحتاج إلى خطوات، وهي كما حددها «هايت» بعيداً عن كل ما حدده العلماء وفيه العديد من الإشكاليات:
“تفسير الفكرة وإبراز أهميتها، واختيار مناسبات بارزة تلهب الخيال، ورسم وسائل الدراسة في المستقبل.. أيضاً، تحديد الموضوع بشجاعة وبخطوط عريضة، ومناقشة الوسائل التي أدخلت بها الأفكار الجديدة، القوة أو الإقناع أو الجاذبية، وعلى مدى طويل من الزمن”.
هي أيضاً، دعوة لأن يكون هناك من يكتب هذا التاريخ ويؤرخه.. مؤرخ تهاجر أفكاره لتعود وتتخلَّد في حضارات تتقدم وترتقي بهذه الأفكار التي تخلّده… مؤرخ كالذي قال عنه “هايت”:
“لا يوجد في العالم كله، وفي وقتٍ واحد، أكثر من اثني عشر شخصاً يقرؤون أفلاطون ويفهمونه، ولن يوجد عدد كاف من الأشخاص الذين يبدون استعداداً لشراء أحد مؤلفاته. مع ذلك، هذه المؤلفات تصل إلى كل جيل، لأجل هؤلاء الأشخاص القلائل. لقد كتب الخلود لهذه الكتب بسبب جاذبيتها الذاتية، وأهمية محتوياتها لعقل الإنسان الوفي”.
باختصار: إن قول الشاعر والمفكر “أدونيس”: “لا يكفي أن يُقال عنك: “دخلتَ التاريخ، ينبغي أن نسألكَ أولاً: ماذا أدخلتَ عليه؟”. إن هذا القول، يلخص كل ما أراد “هايت” قوله عن التاريخ الذي يصنع بواسطة حركة الأفكار، وبالتالي يؤدي إلى تقدم الحضارة عن طريق انتقال الأفكار من عقل إلى عقل، ومن بلد إلى بلد، ومن الماضي إلى الحاضر..
التاريخ الذي تتقارب فيه الشعوب عبر أفكار لا يستمر أو يبقى منها، إلا الفكر المتقدم والحضاري.. الفكر السياسي، الديني، الأخلاقي، الاجتماعي، السياسي. أما التاريخ والعصر البربري:
“العصر البربري، والبلد الهمجي، هما اللذان يحاولان شل الاتصال، وحبس الأفكار، ولا شك أن العقل المنغلق علامة على الهمجية، إنه يرفض قبول الأفكار وتبادلها”.