الثورة أون لا ين – عبد الحليم سعود:
وسط ظروف سياسية حساسة وصعبة تمر بها منطقتنا والعالم، أغمض فارس الدبلوماسية السورية المحنك، ورجل المهمات الصعبة، وصاحب الأعصاب الباردة، والخبرة السياسية الطويلة، والمواقف الشجاعة وليد المعلم عينيه ورحل عن دنيانا صبيحة هذا اليوم التشريني المهيب ـ وبعض التواريخ لها دلالاتها ـ حيث تصادف اليوم الذكرى الخمسون للحركة التصحيحية المجيدة التي كان الفقيد أحد رجالاتها المخلصين والمؤثرين على مدى عقود طويلة، بسبب عمله الدؤوب والمستمر والطويل في السلك الدبلوماسي السوري، حيث تذكر له ميادين السياسة والدبلوماسية والمنابر الأممية الكثير من المواقف والكلمات والعبارات المؤثرة التي ميزته كأمهر الدبلوماسيين العرب في العقود الماضية، لدرجة تشبيهه ب “غروميكو ” نسبة لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق.
يرحل اليوم المعلم وقد اطمأن إلى انتصار بلاده على الإرهاب واستعادتها للأمن والأمان وزوال الكثير من الأخطار المحدقة، ونجاحها في تخطي أصعب المحن التي مرت بها في العصر الحديث، حيث حافظت الدبلوماسية السورية في عهده على الحضور والنشاط الدائمين، وعلى الحيوية والدأب في الدفاع عن سورية وعن قضاياها وقضايا العرب، في كل المحافل وعلى كل المنابر الدولية التي ارتقاها، حيث كانت مسيرته الدبلوماسية حافلة بالتطورات والأحداث، منذ أن التحق بوزارة الخارجية عام 1964 بعد تخرجه من جامعة القاهرة عام 1963 بشهادة بكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية حتى يوم رحيله، حيث قاد الدبلوماسية السورية بنجاح وحكمة وأعصاب فولاذية في أعقد المراحل وأدقها، لتحصد سورية بفضل حنكته وخبرته الموقع الذي تستحقه على الصعيدين الإقليمي والدولي.
مواقف مشرفة للراحل:
لا يمكن لمن يقرأ مسيرة فقيد سورية الراحل الكبير وليد المعلم إلا أن يتوقف عند محطات مفصلية فيها، ولا سيما بعد اندلاع الحرب الإرهابية الكونية على سورية عام 2011 حيث وقف على منبر الأمم المتحدة بنيويورك وهاجم سياسة الولايات المتحدة الأميركية في سورية ودعمها للإرهاب واتهمها بالتدخل المباشر في الشؤون السورية، الأمر الذي قلما يقدم عليه دبلوماسي بهذا الوضوح والصراحة والشجاعة، كما لا يمكن نسيان موقفه الشجاع في مؤتمر جنيف بشأن حل الأزمة في سورية عام في 22/1/2014 حين خاطب وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك جون كيري وجهاً لوجه بالقول” سيد كيري.. لا أحد في العالم له الحق في تغيير أي حكومة شرعية، ولا أحد في العالم له الحق أن ينصب نفسه ناطقاً باسم السوريين..”
كما كان له مواقف حاسمة في مؤتمر جنيف أيضاً بشأن التطورات والأحداث منها:
نريد حلاً سياسياً في سورية.
ننسق مع الجانب الروسي وليس هناك أي ضغوط علينا من قبله.
ندين الإرهاب بالمطلق، أما حزب الله فهو مجموعة مقاومة تدافع عن وطنها بطريقة استباقية ضد الإرهابيين.
عدم دعوة إيران إلى مؤتمر جنيف خطأ كبير ويتجاهل دورها الهام والفاعل في المنطقة.
“الائتلاف” لا يملك التأثير على المجموعات المسلحة الموجودة على الأرض في سورية.
الولايات المتحدة تدعم العراق في حربه ضد داعش في حين تسلح داعش والنصرة في سوريا لقتل السوريين.
مصير من يقود سورية هو بيد الشعب السوري.
كان الراحل الكبير من أنصار التوجه شرقاً في علاقات سورية سياسياً أو اقتصادياً أي باتجاه الصين ودول شرق آسيا بعد أن التحقت دول الغرب بالموقف الأميركي وأصبحت رهينة للإملاءات الأميركية، وأظهرت جانب العداء للشعب السوري من خلال دعم الإرهاب والتطبيق الصارم لنظام العقوبات الأميركية الأحادية الجانب ضد سورية.
من مواقفه أيضاً:
لقد كان للراحل موقف صلب من قانون قيصر الأميركي للعقوبات الأحادية الجانب الذي دخل حيز التنفيذ في بداية حزيران الماضي، حيث اعتبر إن هدفه خنق السوريين، ولكنه لن يحقق الحلم الأميركي، وتعهد بحصول سورية على دعم من الحليفة روسيا لتخفيف وطأة هذه العقوبات الظالمة.
يشهد للراحل أنه قاد الدبلوماسية السورية في أصعب المراحل، واستطاع بحنكته وبراعته وخبرته أن يقنع الكثير من الدول بدقة وصوابية مواقف سورية ومشروعية حربها ضد الإرهاب، كما ساهم بتعزيز العلاقات القوية مع دول مهمة مثل روسيا والصين عبر العديد من الزيارات التي قام بها.
وتمثل نجاحه الأكبر في إبقاء الدبلوماسية السورية حاضرة في الأمم المتحدة طيلة فترة الحرب بالرغم من محاولات التجاهل والإلغاء، وهو ما ساهم إلى حد كبير بدعوة سورية إلى مؤتمرات جنيف وتحول موقفها بشكل أكثر رسوخاً على الأرض، رغم كل الدعم الإقليمي والدولي للجماعات الإرهابية، حيث ظل صوت سورية الدبلوماسي مسموعاً ومرهوب الجانب، وهو ما أكسب القضية السورية المزيد من التعاطف والتأييد.
يرحل اليوم فارس الدبلوماسية السورية وقد أنجز كل ما يستطيعه في خدمة بلده وشعبه تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من القيم والمواقف النبيلة التي تشهد له، وقد ترك خلفه دبلوماسيين أكفاء يستطيعون أن يكملوا مسيرته بكل نجاح واقتدار، بعد أن تميز عهده بانتقاء الدبلوماسيين على أساس الكفاءة والخبرة.
محطات في حياة الراحل
من مواليد دمشق عام 1941، تخرج في جامعة القاهرة بمصر عام 1963 بشهادة بكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية.
بعدها بنحو عام فقط، التحق المعلم بوزارة الخارجية السورية، وعمل في البعثات الدبلوماسية في كل من تنزانيا والسعودية وإسبانيا وبريطانيا.
وفي عام 1975 عين سفيراً لسورية لدى جمهورية رومانيا حتى عام 1980، وفي الفترة من 1980 وحتى 1984 عين مديراً لإدارة التوثيق والترجمة.
وخلال الفترة من 1984 وحتى 1990 عين مديراً لإدارة المكاتب الخاصة، وبقي في دمشق.
عام 1990 أصبح سفيراً لدى الولايات المتحدة حتى 1999 وهي الفترة التي شهدت مفاوضات السلام العربية السورية مع إسرائيل، حيث لفت الأداء المتميز للمعلم أنظار المراقبين الدوليين، على الرغم من فشل المفاوضات.
وفي مطلع عام 2000 عين معاوناً لوزير الخارجية وفي 9 كانون الأول 2005 سمي نائباً لوزير الخارجية، وتم تكليفه بإدارة ملف العلاقات السورية- اللبنانية في فترة بالغة الصعوبة، قبل أن يتم تعيينه وزيراً للخارجية في 11 شباط 2006.
ومنذ بداية الحرب على سورية 2011 لعبت دبلوماسية المعلم دوراً مهماً، حيث قاد حملة كبيرة لإقناع العالم بعدالة القضية السورية وهو ما تحقق.