الثورة أون لاين – علي الأحمد:
على مر التاريخ، اكتنزت موسيقانا العربية ، خزيناً إبداعياً عميقاً من الأنماط والتقاليد الأصيلة الموروثة، شكلت وعلى مدى عقود طويلة، إطاراً ثقافياً جامعاً، لهوية خاصة ومتفردة ،تمثلت بشكل أساس ،في تنوع وثراء منظومتيها المقامية والإيقاعية ،وبروز عنصر الارتجال ،أحد أصعب عناصر هذه الهوية المائزة ،التي استفادت ،من مسارات التثاقف والحوار ، مع موسيقات الشعوب ،حيث بقيت عناصر هذه الهوية محتفظة بموقعها وحضورها الفاعل، بين هذه الموسيقات ،بفعل ديمومة هذا الارتحال الثقافي ،والحوارات الغنية الندّية، مع إعلام ومفكري هذه الموسيقات،في سبيل الوصول إلى قواسم إبداعية مشتركة، وخاصة مع موسيقات الشرق ،التي تتمتع إلى حد كبير بنفس سمات وخصائص موسيقانا العربية وإن اختلفت في بعض الجزئيات العابرة .
– إذا ،ومن منطلق حضاري وانساني كبيرين ارتحل باكراً ،الموسيقي العربي ،نحو منابع الموسيقى الكلاسيكية ،الغنية بتقاليدها وعلومها ومساراتها الإبداعية المهمة ، كما أخبرنا “الأصفهاني” المؤرخ الموسوعي وغيره من مؤرخين ، بغية تأصيل هذه الحداثة المنشودة في تقاليد النظام الموسيقي العربي، دون أن يكون ذلك ،على حساب مكتسبات وعناصر الإبداع في الهوية الموسيقية العربية ، وهذا ما حصّنها باكراً، من الغزو الثقافي وصعود التغريب وتيارات التقليد التي لم تتوقف إلى يومنا هذا ،بفضل فرسانها الكبار ،الذين ساهموا مساهمة جد فاعلة في إبقاء مفرداتها الأصيلة، بعيدة عن الذوبان والتلاشي في الآخر المغاير المختلف، ولم يكن مسار هؤلاء الفرسان النبلاء ، هيّناً وسهلاً أبداً، فكان دونه عقبات وموانع لم تنته، من أهمها تخدير الُأذن والذائقة العربية في مخدع الطرب والتطريب بطقوسيته المغلقة، وصراعات “الرجعية” الموسيقية مع رواد الحداثة والتجديد ،في كل الأزمنة ،من منطلق ثقافي ضيق ومغلق ،يأبى الحداثة خوفاً على مكتسبات هذه الهوية من الذوبان والتشويه “كما يظنون” ، وأخيراً وليس آخراً، وجود مستمر وفاعل، لتيارات التقليد والتغريب واستنساخ هذا الآخر ،على علاته، دون إدراك لمخاطر هذا التوجه والانقياد الأعمى نحوه ،في دلالة مهمة على نضوب معين الإبداع ،والقفز غير العقلاني ،عن كل هذا الذخر والمنجز الإبداعي الذي تحقق عبر مدارس وتيارات موسيقية عربية ، اختلفت في طرق ممارستها ،لكنها حافظت بأمانة وصدق ،على مفردات الهوية الموسيقية العربية، لكن ماحدث لاحقاً، وما يحدث في أيامنا هذه من اتساع دائرة التقليد والتغريب ، يستدعي بالضرورة مراجعة الذات ثقافياً، من منطلق نقدي ومعرفي ،يضع هذه المسارات التغريبة موضع التساؤل والبحث والقراءة المعرفية المنهجية، والاستبصار ،بحال ومآل الواقع الموسيقي العربي ،الذي تتقاذفه التجارب والتيارات التجارية الهابطة نتيجة عوامل اقتصادية واجتماعية معلومة ،أفرزت حالات شاذة غريبة، من دخول غير موفق لمهرجين ودجالين وأدعياء مجال هذا الفن الانساني النبيل ،بفعل المال الفاسد المُفسد فباتوا بين ليلة وضحاها قيمين على ذائقتنا وخياراتنا الموسيقية يفرضون حضورهم السمج الغبي، على الجميع ،حيث تغيب الموسيقى البديلة ،وتنزوي بعيداً خلف ضباب التراث المضيّع على أكثر من جهة ،حيث تلعب منظومات التغريب من عولمة وما بعدها وحركات تدمير الموسيقى وانتشار مرعب لمتاحف القبح الفني ،دوراً سلبياً وضاغطاً، في مجال صعود وتكريس التيار التجاري الاستهلاكي الهابط كواقع بديل،وكمعيار جديد على “التحضر ومواكبة العصر” ،على حساب عناصر الإبداع في الهويات الموسيقية الوطنية ،وعلى حساب تقاليدها العظيمة الزاخرة ،و”مكننة” المنتوج الحسي الذي يترافق مع صعود عصر الصورة التي تندلق على المتلقي من كل حدب وصوب ،في تعزيز لمقولة هذه المنظومات المؤدلجة “أنا استهلك، إذاً أنا موجود” والبقية تأتي ،وهي تأتي حتماً وتستمر لطالما هناك من ُيغذي هذا الجانب الحسي ويسلّع الفنون كأي بضاعة تجارية، تخضع لمنطق السوق وتجلياته الاستهلاكية المريضة، وكل ذلك يتم بعيداً عن تأصيل الحداثة الحقة، في تفاصيل الحياة الموسيقية المعاصرة ،وهو ما يستدعي وبشكل فاعل ومثمر ،العمل من قبل الوزارات المعنية من ثقافية وإعلامية وغيرها البدء بمشروع موسيقي نهضوي تنويري ،يقف في وجه كل هذا الخراب والانحطاط وتدني الذائقة، الذي يتسيد ويسود المشهد الموسيقي المعاصر من ألفه إلى يائه، والأمل دائماً معقود على جيل الشباب وفرسان اللغة الجديدة البديلة، ممن يمتلكون إضافة إلى المعرفة الموسيقية والموهبة الحقة، روح الانتماء والوفاء لهذه الهوية الأصيلة، في أن يأخذوا زمام المبادرة ويبدؤوا ورشتهم الإبداعية المنشودة التي طال انتظارها، يقول الباحث الدكتور “محمود قطاط” في بحثه المهم “الهوية والإبداع في الموسيقى العربية ” :”لا بد من الإشارة إلى أن طرح مسألة الهوية والابداع تكتسي في هذا المجال صعوبة خاصة تعود أساساً إلى طبيعة المادة الموسيقية ذاتها والتي تجعل من هذا الفن – بالرغم من خصوبة الإبداع فيه بل اعتماده أساساً على الإبداع – أكثر الفنون تحفظاً وأقلها قابلية لعملية التجديد التي يتطلب تركيزها وقتاً أكثر ونفساً أطول، مع اعتبار العديد من المسائل الفنية والتقنية وغيرها… إن الموسيقا في جوهرها تمثل ظاهرة أساسية لا في تحديد الهوية فحسب، بل كذلك في إبراز الذوق والقدرة على الإبداع والابتكار، من حيث أدواتها ومفاهيمها الجمالية ووظيفتها الاجتماعية، وذلك بما يتماشى مع عبقرية وخصوصية كل شعب وما يتناسب مع حاجاته الحقيقية.