الثورة أون لاين – ليندا ابراهيم:
أيحدث، أن حدثَ من قبلُ في تاريخنا عبرَ مراحله جميعها، من غيابٍ أو اغتيابٍ للطبقة المثقفة، كما يحدث في وقتنا الراهن، وتحديداً في السنوات الأخيرة؟ يحدِّثُنا التَّاريخُ، أنَّ ما من مِحْنَةٍ مرَّتْ على البلادِ العربيَّة، إلا وكانت قد غرِقَتْ في ظلامِ عقلها، وخَبَتْ منارة فكرها، وغابت عقولُ مفكريها ونخبتها المثقفة، وكَبَتْ جيادُ عربتها عبرَ الزمن إلى المستقبل… لا بد إذاً من وضعِ النُّقاط على الحروف، ونحن على مفصلية مشهدية، وما أكثر هذا المفصليات، والبدء بنهضة تنويرية ثقافية مجتمعية لنخرج من عنق الأزمة التي ظاهرها الحرب والاقتتال، وباطنُها غيابُ الفعل الحقيقي والوجود الفاعل للطبقة المثقفة الواعية التي طالما قادت مجتمعاتها في أحلك الأوقات وأشدها ظلمة وانهياراً إلى بر التغيير المنشود والأمان الناجز والازدهار المأمول… إذا كانت هذه الطبقة، تملك حقاً قوام الطبقة المثقفة المتماسكة الواعية، فلم لم تنهض للآن، وما أسباب تأخر وعيها، وقد عودتنا مسلمات التاريخ أنها الطبقة التي تستشرف، وتستبصر، وتتبصر، وتنبئ بالقادم، وتبشر بوعي أو تنذر بحزم، فكان الواحد بطبقة كاملة، والفرد بجميعٍ مُجْتَمِعٍ، والفكرُ ثاقباً ماضياً لدرجة أن أقوالهم لا تزال نقشاً في ذاكرة الشعوب… أعودُ للقول، إن كانت ثمة طبقة مثقفة عربية، فلماذا طغت أصوات السِّلاح على أصوات الضمائر، ولماذا عمَّت أصواتُ طبول الحروب والغزوات والعودة للجاهليات الأولى، على القلم والفكر والرأي.
لو كنا نُعمل العقل والفكر والثقافة كضمير جمعي، بلسان حالٍ صادق قوي أمين…؟ ثمة عقول ومفكرون وأصوات ساطعة صادعة بالحق والحقيقة منذرة بالخطر مبشرة بالأمل، لكن أين فعلها، وأين أثرها، لقد بقيت في نطاق الصوت والصدى دون أثر قيض له على الدوام عدم الفاعلية، وخلبية التأثير… فكيف إذا أدركنا أننا بعد عقود من جمود العقل العربي، لا زلنا نعيش في غياب، غياب عن إشراقات عديدة في ماضٍ، وحاضر يمكننا أن نحوله إلى شرارات فعل ينجز ويعد بالكثير الأسمى…
هل نحن شاهدون على غياب للمثقف وبالتالي لدوره الفعلي الحقيقي؟ هذا مما لا شك فيه… السؤال الذي يطرح نفسه: أين هذا العدد العديد الكاثر من النخبة وأين فعلهم وأثرهم، أجزم بأنه “الاغتياب”، هم يغتابون بعضهم بعضاً، وطبقتهم تغتابهم، وهم يغتابون أنفسهم، حينما يفعلون غير ما يؤمنون ويحملون من مبادئ، وهذا التشرذم والنفاق والممالأة معهودة في جميع الأوقات والعصور، لكنها تبدو مكروهة ومرفوضة في أوقات يجب أن نخلعها عنا حتى لو كانت جلدنا، ووجهنا، ولبوسنا، إذا ما دعا الواجب، وقد دعا الواجب.. في أحاديثنا الخاصة نقول الكثير عن الكثيرين مدحاً وذماً ونقداً وصراحة لأبعد الحدود، وحينما نجتمع بمن اغتبناهم، ذماً أم مدحاً، ننقلب للموقف المعاكس ونظهر عكس ما نضمر،
هذا ما حرق طبقة المثقفين على امتداد العصور، وهذا ما حرق الرموز القليلة النادرة التي خرجت عن هذا النسق علانية، وطابَقَ باطنُها ظاهرَها وقولُها فعلَها وسلوكُها ضميرَها في قول الحق وقوة الموقف واتخاذ القرار فماتوا شهداء الحقيقة لكنهم خلدوا للأبد في الضمائر والوجدان… إذا كنا جميعنا نغتابُ ونغيِّبُ جميعَنا، فما النتيجة المؤمّلة من كل هذا… إنه الواقع الحالي، الكل يتحدث ويصارح الكل، لكن عند الموقف الجمعي، واتخاذ الموقف الحقيقي الصحيح نصمت بل شئ ما في داخلنا يخرسنا، حتى بتنا مستنسخين بأشوه النسخ وأقبح المظاهر… هذا أوان الحق… وقوله وتبنيه من استطاع لذلك سبيلاً وبشكل جمعي جماعي، وليس بصيغة توافقية، فإن لم يجمعنا شرف المبدأ فلن توحدنا رأياً وسلوكاً الصيغُ التوافقية بنسخها السطحية الضحلة، وحينما يحق الحق لن يكون قَطَفَةُ ثمارِهِ سوى من ضَحَّى عبر الأزمنة بروحه ودَمِهِ وقُوتِ يومه وأوذي في سبيل نصاعته… فهل نعتبر أو نتغير أو نتيقظ… هذا أمن ثقافي وطني، لا يقل أهمية بل هو في الدرجة الأولى في كل سلوكياتنا، فأين هو من اعتباراتنا كأفراد وكمؤسسات وكطبقة “مثقفين”…