ثورة أون لاين _ فؤاد مسعد:
حتى الأيام الأخيرة من العام الحالي كان يضع كل منا يده على قلبه خشية وخوفاً من نبأ مُفجع وما أن تسارعت وتيرة الأيام نحو نهاية السنة حتى حُبست الأنفاس ، هل نتخطى عام 2020 بسلام دون حزن أو ألم ، ولكن أتت الإجابة مفاجئة ومسرعة ومرة بطعم العلقم أصابت القلوب في الصميم لتبدو نازفة بحرقة في اختيار مبدع هو واحد من أهم العاملين في حقل الدراما وترك أثره الكبير فيها ، فأي خسارة وأي فجيعة حلت بالوسط الإبداعي والفني ، برحيل مبدع من الطراز الرفيع حفر الصخر بيديه ليُخرج منه ماءً ، هكذا كان منذ الإرهاصات الأولى لبدايته كممثل ، وفيما بعد ككاتب ومخرج ومنتج وصاحب مشروع فني وثقافي فيما يُقدم ، إنه حاتم علي الذي ترجل عن صهوة جواده يوم أمس في القاهرة تاركاً وراءه أعمالاً كثيرة يمكن اعتبارها بمثابة نقاط علام في تاريخ الدراما السورية والعربية ، ويوم الخميس مساء يصل جثمانه إلى مطار دمشق ليشيع الجمعة من مشفى الشامي حيث يصلى عليه عقب صلاة العصر ويوارى الثرى في مقبرة باب صغير .
مبدع خط سنوات عمره بعمل دؤوب ، لم يكن لديه وقت لإضاعته بعيداً عن التحضير أو الإنجاز والتصوير أو التفكير بمشاريع قادمة وبناء لبناتها الأولى ، وأذكر تماماً لقاءاتنا التي تعود لأكثر من عشرين عاماً على طاولة صغيرة في (ندوة) المعهد العالي للفنون المسرحية ، عندها كان يملأ قلبه الشغف بأحلام كبيرة لا تتسع لها الدنيا ، هذه الطموحات التي أخذ بتحقيقها بدراية ومعرفة وتأنٍ ، فحفرت عميقاً في نفوس المشاهدين ، مشاريع عديدة كانت حاضرة في ذهنه سعى إلى ترجمتها على أرض الواقع أعمالاً ترقى إلى صيغة مشاريع فنية تحمل هموماً ورؤى وأفكاراً ، ومنذ البداية تخطى بالجهد المتواصل والتصميم والإرادة كل الصعاب لتحقيق هاجسه الإبداعي وسعى لامتحان نفسه في كل مرة عبر أفق أكثر رحابة حتى تحول كل إنجاز يحققه إلى لبنة يخطو من خلالها قدماً نحو اقتراحات فنية أكبر ، وإلى درجة من سلم طويل يحفل بالنجاحات والتحديات ، قدم أعمالاً هامة حُفرت في الذاكرة ، لا بل شكّل العديد منها فيما بعد مفاصل أساسية في تاريخ الدراما السورية فبات يُقال (ما تم إنتاجه قبل هذا العمل ، وما تم إنتاجه بعد هذا العمل) .
كانت له رؤاه النابعة عن قراءة متأنية للواقع الدرامي ، حتى إنه في أحد اللقاءات التي أجريتها معه عام 2008 ونشر في صحيفة الثورة ذهب لاستشراف المستقبل لنجد بعد سنوات أن الكثير من كلامه تحقق على أرض الواقع ، قال حينها : (أعتقد أن المستقبل سيكون للعمل العربي المشترك خاصة في ظل وجود الفضائيات التي كسرت الحدود الإقليمية بين الدول العربية فالاتجاه اليوم نحو التكتلات الكبيرة ولأعمال ذات صبغة عربية ، والدراما السورية كانت سباقة في هذا المجال واستقطبت أعداداً كبيرة من الممثلين والمخرجين غير السوريين كما استقطبت خبرات غير عربية) ، وقد حرص عبر تجربته على تحقيق حالة من التوازن بين المضمون وطريقة التعبير عنه بعيداً عن ثرثرة الحوار وثرثرة الصورة ، كما برع في إدارة الممثل وتحفيزه لتقديم الكامن من عوالمه الداخلية واهتم في التفاصيل لدرجة كبيرة ، يقول (أؤمن أن الفن يكمن في الشغل على التفاصيل الصغيرة) ، وقد كان ظهوره الأول اللافت في مسلسل (دائرة النار) 1988 ، وكرت السبحة مقدماً أعمالاً تحمل من روحه الكثير ، ومن ينسى واحد من أهم الأعمال الاجتماعية التي قام بإخراجها وقُدمت للعائلة (الفصول الأربعة) ومحاولته مناقشة الكثير من الأسئلة الموجعة عبر (التغريبة الفلسطينية) ، إضاقة إلى العديد من الأعمال التاريخية السورية الهامة التي استطاع أن يكسبها روحاً وحياة في طريقة التعاطي معها وتقديمها على الشاشة .
تعجز الكلمات وتتلعثم عند رثاء قامة إبداعية بحجم الراحل حاتم علي ، ولكنها في مجموعها تشكل حالة حب ووفاء لمبدع كان له حضوره الخاص في المشهد الدرامي والفني ، ويبقى العزاء بما سطره من أعمال تبقى ضمن الذاكرة الجمعية للناس ومن إرث إبداعي وفني وفكري وجمالي وحضاري لا يمحوه الزمن لأنه راسخ لا يموت .