الثورة أون لاين- علي الأحمد:
لم يترك منير بشير، القادم من حضارة بابل وآشور ، مجالاً في عالم الموسيقى، إلا وطرقه، فمن إبداعه في العزف على العود ، الى التدريس وإنشاء الفرق الموسيقية وإصدار المجلات الموسيقية المتخصصة، إلى كتابة البحوث والدراسات، والمناصب المرموقة التي شغلها، وصولاً الى ريادته في مجال الارتجال على العود وغيرها من محطات، حاول من خلالها هذا الفنان الكبير، أن يدخل الموسيقى إلى كل شيء في هذه الحياة، التي أعطته مايستحق من مكان ومكانة مرموقة، كان يستحقها بكل تأكيد.
لم يكن الطريق معبداً أبدا، فكان أن عانى هذا الفنان كثيرا، في مجتمعه العربي، خاصة في محاربته للإسفاف والانحدار الذوقي، الذي شاع نتيجة تراكمات معنية معلومة، وهي نتائج محتومة لنظرة المجتمع العربي للموسيقى، كوسيلة للإمتاع والمؤانسة ومزجاة الوقت ليس إلا، لكنها في الغرب الذي خبره دراسة أكاديمية، وعزف في أرقى مسارحه، كان الأمر يختلف كلياً، فالموسيقى هناك، رسالة جمالية تثري عالم الإنسان وتعيد بناؤه ذوقياً وجماليا ، بماتملكه من أدوات تعبيرية مذهلة، تبدأ معه رحلة طويلة وشائقة ، لاتنتهي، وكان هذا الأمر يعذبه كثيرا، وهو يرى الفرق الشاسع بين هذين العالمين، ولهذا حارب كالفرسان النبلاء، كل الانحطاط الذي ساد، بكل ما أوتى من فكر راقٍ وثقافة موسوعية ، كان لايهادن أو يتنازل أبداً، في قضايا الهوية والتراث ومفهوم التجديد والحداثة، ولهذا حاربه كثيرون ووقفوا في وجه مشروعه الموسيقي المهم، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، لأنه كان أقوى منهم، فكراً وثقافة ومعرفة، إضافة “كما أسلفنا” الى عزفه الساحر على آلة العود، رفيقة عمره، التي أعاد اليها الاعتبار والمكانة المفقودة، عندما كانت تذوي بخجل واستحياء، خلف المغني، لايكاد يسُمع صوتها تردد آهاته حتى الصباح. نعم قلب منير بشير هذه المفاهيم، وطوى هذه الصفحة المزرية الى النهاية، ليتحرر العود من براثن اللغة الطربية وطقوسها السمعبصرية، نحو آفاق جمالية وتعبيرية مذهلة استنطقها ونثر قطوفها الدانية في ذائقة مغايرة، لطقوس التلقي التي سادت حقب طويلة حيث تخدرت كثيرا في مخدع الطرب والتطريب، وكل ذلك تأتى له، من خزين هذه الحضارات التي قرأها قراءة روحية ووجدانية، ليكمل المسار والمسير ويرتحل “كزرياب” معاصر، الى ثقافات مغايرة، حاورها من منطلق ندّي بإبراز هويته الثقافية وشخصيته الفنية والأهم رسالته الإنسانية الحضارية، التي وسمت أغلب نتاجه الابداعي، باحثاً ك “جلجامش” عن عشبة خلوده، عن زمنه الموسيقي المائز، المتشبع بتراثات موسيقاه العربية التي انتمى لها فكراً وثقافة ومعرفة.
كانت مرجعياته كثيرة، وهو المثقف الموسوعي، ساعده في ذلك تعرفه عن كثب على موسيقات الشعوب المختلفة التي ارتحل اليها متأبطاً عوده وحلمه الموسيقي في أن تصبح الموسيقى العربية في مصاف الفنون الراقية في العالم، لقد استقبله الغرب، بكل حب وتقدير ، لأنه وببساطة صاحب مشروع موسيقي انساني وحضاري، ليقيم حوارات ثقافية شائقة، مع موسيقى البلدان التي زارها، ليعزف الراجا الهندي، والفلامنكو الإسباني، والجاز وغيرها في تفتّح هذه الموسيقى على موسيقات العالم، التي نال فيها أرفع الجوائز والأوسمة ومفاتيح المدن التي احتضنت موهبته الخلاقة،كمثال، حصل على وسام الثقافة من فرنسا، ووسام الاستحقاق من ملك اسبانيا، ووسام الثقافة والفنون من بولونيا، ووسام الثقافة من الدرجة الأولى من كوبا، ووسام كوماندور مع شهادة دكتوراه فخرية من الحكومة الايطالية، كما حصل على الميدالية الذهبية لبيكاسو، وميدالية شوبان من بولونيا، وميدالية فرانز ليست من هنغاريا، وميدالية تشايكوفسكي من الاتحاد السوفيتي، كما منح مفتاح مدينة “يوكوهاما” والعديد من الأوسمة وميداليات التقدير.التي استحقها عن جدارة واستحقاق . إذاً، كان هذا الفنان الموسوعي، يتوق دوماً، الى تحقيق هذا الحلم، في أن تصبح موسيقاه العربية في مصاف الفنون الراقية ، وهي مؤهلة لذلك، كونها تملك خزيناً إبداعياً عظيما، من التقاليد والأنماط والقوالب الموسيقية وفي كلتا الموسيقتين، الفنية العالمة، والشعبية التي تمثل حكمة وفلسفة الشعب ، بروحها ونقائها الأصيل.
وكما قلنا آنفا، لم يكن مسار هذا الفنان، هيّناً وسهلاً أبدا، كان يسعى الى تغيير عادات التلقي والتذوق، بموسيقاه البديلة، وكان يؤكد دائما على تجذير التربية الموسيقية الجمالية، في المجتمعات العربية، التي غزاها التشويش الاستعماري بأشكاله وأقنعته المتعددة. وبالتالي إعادة الثقة “للأنا العربية “عبر التواصل الروحي والوجداني مع التراث الذي أهملناه ألى حد الفجيعة، واحترام رموزه ورمزيته الثقافية والفكرية، يقول في حوار منشور” عندما أتحدث عن التراث، لا أقصد أن ندخل في “قوقعة” وأنا أعتقد أن التراث تقدمي إلى الأبد، إذا ما أحسنّا التعامل معه، فالمسألة كلها تعتمد على طريقة تناولنا له، والاختيارات التي ننتخبها منه، فالتراث حاضر فينا، وليس هناك تراث قديم وتراث جديد، هناك الإنسان. أنت عمرك آلاف السنين، ومن الظلم التعامل مع تراثنا العظيم، على أنه شيء متخلف ومنحط وزائل، هذه النظريات متخلفة، ورجعية خارج التاريخ، لأنك إذا حاولت “قتل” التراث، فإنك تقتل التاربخ. والتراث هو ثمرة عمل جماعي وتراكم خبرات الأجيال، والتجارب التي لاتنتهي، ومهما كنت عبقرياً تبقى أنت فرد، بينما يختزن التراث تجارب الأمة،. إننا مطالبون اليوم قبل كل شيء أن نعيد الثقة إلى الذات العربية، ونعيد احترام فنوننا وتراثنا، كما تفعل كل شعوب الأرض، فمثلاً اليابان لاتزال تختزن مسرح “الكابوكي” الذي يزيد عمره على ٣٠٠ عام رغم ذلك لم يغيروا أي شيء على هذا المسرح رغم كل التطور التكنولوجي الذي حققته اليابان، وحتى اليوم لايزال الرجل يمثل دور المرأة في مسرح الكابوكي ، هذا التقليد الذي عمره مئات السنين، فهل يعني هذا، أن اليابان، دولة متخلفة؟؟
قدم منير بشير، أحد أنجب تلامذة الشريف “محي الدين حيدر” مؤسس المدرسة البغدادية في العود، حفلات وأمسيات في شتى بقاع العالم. وهو أول موسيقي عربي يقدم برنامجاً موسيقيا كاملا، على آلة العود ، التي منحته كل الريادة في فن الارتجال، الفن الأصعب في موسيقانا العربية، والذي يختلف كثيرا، عن مفهوم التقاسيم الشائع. ولهذا حظي بالتقدير والإشادة أينما حل وارتحل، لأنه كان صاحب مشروع موسيقي حقيقي، يسعى إلى إدخال الموسيقى في كل تفاصيل الحياة ، بكل ماهو نبيل متأصل، وبكل ماهو جليل في هذا الفن الذي كان منير بشير أحد فرسانه النبلاء، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.