الثورة أون لاين _ فؤاد مسعد:
يُعتبر التنوع أحد سمات النتاج الإبداعي الذي قدمه المخرج الراحل علاء الدين كوكش خلال مسيرة عطائه ، هذا التنوع الذي تجاوز حدود ما قدمه على صعيد الإخراج التلفزيوني لأنه لم يكن وسيلته الوحيدة للتعبير عما يكتنز في داخله من رؤى وأفكار وإنما ترجم هواجسه الإبداعية وفق أشكالٍ متعددة فكتب القصة القصيرة والمسرحية والسيناريو التلفزيوني ، ونشر في العديد من المجلات والدوريات ، وقام بالإخراج المسرحي ، كما وقف ممثلاً أمام الكاميرا في عدد قليل من الأعمال السينمائية والتلفزيونية .
ولدى تناول حالة التنوع التي وسمت أعماله الإخراجية تحديداً نجد طيفاً واسعاً من الخيارات التي حرص على خوض غمار كل منها بدراية وحكمة ودراسة عميقة معطياً كل عمل حقه ، انطلاقاً من مفهومه العميق للدراما ، يقول في لقاء سابق (لا أخوض غمار عمل إلا وأكون مقتنعاً ومتحمساً لفكرته ، أحاور مؤلفه لنصل إلى الصيغة النهائية دون أن يفاجأ فيها المؤلف لأن لديه كل التصورات ، وبالتالي عندما أبدأ بتنفيذ النص لا يكون جديداً بالنسبة إلي) ، المخرج الذي استحق لقب (شيخ الكار) بكل ما حفل هذا التعبير من دلالة ، لم يبنِ طريقة وأسلوبية عمله من فراغ فقد عاصر الإخراج التلفزيوني منذ البدايات الأولى بكل ما حملت من مصاعب وتحديات ، كما أن وسائل التعبير عنده والتفاصيل التي يبثها عبر أعماله ليست وليدة نص بين يديه فقط ، وإنما هي نتيجة محاكمة عقلية وتأثر وتأثير مع المحيط والبيئة والناس ، هي نتيجة خبرة طويلة وقراءات كثيرة شكلت وقوداً لمفهوم الحياة وآلية التعاطي مع مفرداتها وتقديمها في أعمال هامة كسرت الشكل التقليدي ، مبرزاً في الكثير منها عمق التكوين النفسي للشخصيات وسلوكها باحثاً عن انتمائها وسط بيئتها مستلهماً إياها من رحم الواقع ، اعتنى بالشخصيات المهمشة التي تفتش عن الخلاص مظهراً الأسباب الكامنة والدفينة التي وقفت وراء أفعالها ، شارحاً منطقها بسلاسة بعيداً عن التعقيد ، مقدماً العبرة والمقولة .
شكّل التنوع العنوان العريض لمسيرة غنية خاض خلالها الراحل خضم مختلف الموضوعات ، فقدم الأعمال التي تدور ضمن إطار البيئة الشامية والبيئة البدوية ، كما أنجز التاريخي والبوليسي والنفسي والاجتماعي والرومانسي والكوميدي ، وأخرج مسلسلات مأخوذة عن أصل أدبي وأخرى غاص فيها ضمن عوالم المهمشين وطرح مشكلات الشباب وهمومهم ، كما تناول موضوع المرأة وقدم عدة أعمال عن الفساد عكس من خلالها تداعيات تزاوج المال والسلطة والنفوذ منبهاً ومحذراً من مخاطر هذه العلاقة على المجتمع ، وضمن هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أنه وفق هذه التقسيمات يمكن للعمل الواحد أن يجمع بين العديد منها ، فعلى سبيل المثال البيئة الشامية كانت حاضرة في عدة أعمال سبقت (أبو كامل) ، من بينها (من أرشيف أبو رشدي) 1967 و(مذكرات حرامي) 1968 و(حارة القصر) 1970 والمسلسل التشويقي البوليسي (أولاد بلدي) 1972 .
أعتبر كثيرون أن المخرج علاء الدين كوكش عرّاب الدراما التي تدور أحداثها ضمن البيئة الشامية ، والأب الروحي لها ، فقد أظهر من خلالها التفاصيل التي تعكس روح الشام وحميمية البيت الدمشقي ، ويبدو أن نشأته في حي القيمرية تركت أثرها عبر الصورة التي أبرز من خلالها هذه البيئة وكأنها تسكن في داخله ، تعامل معها بصدق ودفء وعكس مفرداتها على أرض الواقع ، فجاء تشابك البيوت في حاراتها القديمة أشبه بتشابك العلاقات الإنسانية التي قدمها عبر الشخصيات وطقوس حياتهم اليومية ، مُظهراً عالماً مليئاً بالحكايات الشعبية بكل ما فيها من أحداث وصراعات تنوس بين قطبي الخير والشر . فقدم مسلسل (أبو كامل) بجزأيه الأول (1990) والثاني (1993) ، عنه قال في لقاء سابق : (مسلسل “أبو كامل” الذي أحبه الناس كان المفتاح للأعمال الشامية كلها وكرت السبحة من بعده وحقق الجزء الأول نجاحاً كبيراً وكان حب الناس ومتابعتهم للعمل كبيرة ، لدرجة أنه جاء بعده سيل من الأعمال التي تتعرض للفترة نفسها) ، كما أنجز الجزء الأول من (أهل الراية) 2008 و(رجال العز) 2011 وساهم مع المخرج بسام الملا في الجزأين الأول والثاني من (باب الحارة) .
وعلى صعيد البيئة البدوية التي دخل إليها بقوة حقق حالة من الدهشة لدى المتابعين عبر ما قدمه من جديد ومختلف ، ومن أعماله فيها (رأس غليص) 1976 الذي دارت حكايته حول اتهام زوجة شيخ القبيلة لرجل بمحاولة الاعتداء عليها ما دفعه للهرب إلى قبيلة أخرى وتتصاعد الأحداث لتصل حد القتال ثأراً وانتقاماً ، وأنجز بعده مسلسل (ساري) 1977 الذي يحكي قصة شاب أحب ابنة عدو والده ولكنه يصاب بالجدري فيتم ترحيله إلى عمق الصحراء لتجده (أم جابر) وتعالجه وعندما يعود لقبيلته ويكتشف ما لم يكن يتوقعه ، كما قدم عام 1982 مسلسل (سيف دحيلان) .
أما في ميدان المسلسل التاريخي فلعل أهم ما أخرجه (سيرة بني هلال) التي جاءت عبر أربعة أجزاء (1978 ـ 1979) وشكّلت نقطة علام محققاً من خلالها متابعة كبيرة من قبل الجمهور ، إضافة إلى أعمال أخرى منها (وضاح اليمن) 1980 و (بيوت في مكة) 1983 و (الذئاب) 1989 . كما كان للمرأة حضور ومكانة خاصة واحترام واضح في أعماله بما فيها المسلسلات التاريخية حتى أنه قدم ضمن سلسلة (سيرة بني هلال) جزأين من بطولة امرأة هما (مغامرة الأميرة الشماء) و (الأميرة الخضراء) ، كما أبرز صورة المرأة الساعية إلى التحرر من القيود البالية (أمانة في أعناقكم) وبشكل عام عديدة هي الأعمال التي قدم من خلالها صور مختلفة عن المرأة بما فيها الأم المضحية (البيوت أسرار) .
مما لا شك فيه أن عالم المخرج الراحل علاء الدين كوكش غني وثر جداً ، وكلما حاول أحد ما الغوص فيه لتلمّس مفرداته اكتشف الكثير من الألق والأعمال الهامة التي يصعب الإحاطة بها كاملة وإعطاؤها حقها بالبحث والتحليل والقراءة عبر عدد من المواد الإعلامية ، وإن تم هنا تناول التنوع في أعماله فهناك جانب آخر تحت سقف هذا العنوان سيتم التطرق إليه في مادة لاحقة تذهب باتجاه الدراما الاجتماعية التي سعى من خلالها إلى إثارة العديد من الأسئلة محركاً الراكد ضمن المجتمع