الثورة أون لاين – فؤاد مسعد:
يعتبر المخرج الراحل علاء الدين كوكش أحد مخرجي الروائع في الدراما التلفزيونية منذ تأسيسها ، ساهمت أعماله الأولى منذ بزوغها في تغيير وجه الدراما السورية في وقت كان الحضور الطاغي فيه للمسلسل المصري ، الأمر الذي شكل تحدياً لترسيخ هوية المسلسل الدرامي التلفزيوني السوري وتكريس مكانته عند الجمهور ، كان للراحل آلية معالجته للأفكار والقضايا المطروحة عبر تفكيكها وإعادة بنائها وإنتاجها من جديد انطلاقاً من رؤيته لإظهار بواطنها وما خفي منها محللاً وكاشفاً وواضعاً يده على الجرح بسلاسة ودون تعقيد . فيقوم بتشريح ظواهر وحالات وقضايا في المجتمع بمبضع الجراح الماهر الذي يدرك تماماً مكان الخلل دون الإشارة إليه بشكل مباشر مفضلاً التعاطي معه بدقة وحنكة وذكاء ليأتي وقع ما يطرح من أفكار في العمل الدرامي أمضى وأكثر تأثيراً في النفوس .. بهذه الروح عمل الراحل محققاً على الساحة حضوراً شكّل الفارق ، مبيناً من خلاله نتاجه قناعته وفهمه لبنية العمل الدرامي الاجتماعي الذي كان يعالج من خلاله مجموعة من القضايا الحارة التي تلامس عمق حاجات المجتمع ، ليكمل من خلال هذه الأعمال حالة التنوع التي وسمت نتاجه على مر السنين .
نتناول هنا الأعمال الدرامية التي تُصنف في إطارها العام ضمن خانة الدراما الاجتماعية والتي جاءت مسلسلات عائلية بامتياز محافظة على اتزانها ورصانتها ، قدم من خلالها الراحل موضوعات مختلفة ومتنوعة وسعى في العديد منها إلى الغوص في البعد النفسي للشخصيات ، مقدماً محاكاة للظروف والدوافع والنتائج عبر بناء درامي مشوق منتصراً للإنسان وهمومه ومشكلاته وقضاياه بكثير من العمق ، يقول في لقاء سابق : ” أقدم أعمالاً مقتنع بها وأحبها ، وأريد أن أنقل هذه القناعة والحب إلى الناس ، وينبغي أن يحكي العمل عن شخصيات من لحم دم وغير افتراضية أو نظرية ، فأنا ابن هذا المجتمع ولدت وعشت فيه ، وبالتالي أريد طرح أمور أعرفها ولامستها وعندما أكون صادقاً سيصل هذا الأمر إلى الناس ” ، هذه الرؤيا في التعاطي مع العمل تماشت مع طريقة الإخراج فقد أكد أكثر من مرة انحيازه لفكرة أن تقوم الكاميرا بدور الراصد العميق لما يقوله عبر الشخصيات بعيداً عن استعراضها لعضلاتها الأمر الذي قد يأتي على حساب العمل .
كثيرة ومتشعبة الموضوعات التي طُرحت ضمن أعماله ، وأحد أبرز الهموم التي قدمها منذ البداية الإشارة والتنبيه إلى عالم المهمشين كما في سباعية (أسعد الوراق) ، الأمر الذي ضمّنه عبر قصص مختلفة في أعمال أخرى حملت العديد من السمات بما فيها ازدياد جرعة التشويق ، فجاء مسلسل (حارة القصر) 1970 دراما تشويقية تستعرض حياة أم مكافحة تحاول تجميع أبنائها حولها والحفاظ عليهم ومنعهم من السفر ، وضم مسلسل (أولاد بلدي) 1972 إلى جانب التشويق البوليسي بعداً نفسياً ، هذا البعد “النفسي والبوليسي” نلاحظه بشكل قوي وواضح بعد الكثير من السنوات في مسلسل (الرجل س) 2001 الذي دارت أحداثه حول شقيقين يفقد أحدهما الذاكرة فيتم البحث عنه في الوقت الذي يبدأ فيه حياة أخرى وفيه تطرح البطلة جدلية (لماذا يتحول الدم الى ماء؟) ، وقد رافق الجانب النفسي العديد من أعماله ، منها (عندما يموت الحب) 2001 الذي عالج الأزمات والإشكالات النفسية التي أفرزتها التحولات الاقتصادية على مستوى البنية الأخلاقية في المجتمع السوري عموماً والعلاقات الأسرية بشكل خاص .
برزت العائلة في مجمل ما قدم راصداً ما طرأ من تغيرات على العلاقات الإنسانية داخلها بشكل أو بآخر ، فرصد في (حصاد السنين) 1985 حكاية أسرة فيها أب لديه خمسة أبناء لكل منهم مهمومه الخاصة ومشكلاته ، وفي (حارة الملح) 1980 تحدث عن طبيعة العلاقات في الأسرة والحارة متناولاً أفكاراً تطرح العديد من القضايا بما فيها الكره والحب والطمع ، وقدم في مسلسل (حي المزار) 1999 حكاية اجتماعية ضمن البيئة الحلبية طارحاً من خلالها الكثير من النماذج الإنسانية والعلاقات المتشابكة مثيراً أسئلة عن التضحية والأنانية والمال والطمع وصراع الفقر مع الحياة وتداعيات نكسة حزيران 1967 على الناس ، ولم تغب مشكلات الشباب عن أعماله فأخرج مسلسل (زهور بلا ربيع) 2003 الذي سلط الضوء على همومهم والمصاعب التي تقف معيقة لآمالهم ومستقبلهم ، كما حملت مسلسلات من إخراجه ميزة قراءتها على أكثر من مستوى بما حفلت به من عمق قدمها ضمن إطار طريف فيه لمسة كوميدية ، كما هو الحال في مسلسل (تجارب عائلية) 1981 الذي تدور قصته حول أب يقترب من سن التقاعد يقرر أن يختبر قدرة أسرته على إدارة شؤونها بنفسها فيخصص لكل من أفرادها أسبوعاً كاملاً يكون فيه الآمر الناهي ، وقدّمَت أعمالٌ أخرى حالة تنويرية توعوية حول مشكلات كان يعاني منها المجتمع خاصة ضمن البيئات البسيطة التي تفتقر إلى العلم ومثال ذلك مسلسل (المجنون طليقاً) 1984 الذي نقاش محوره الأساسي الفرق بين الطب والدجل والصراع بينهما .
آخر الأعمال التي قام بإخراجها كان مسلسل (القربان) 2014 الذي ضم العديد من الخطوط الشيقة المُقدمة بغلاف اجتماعي معاصر (تهريب الآثار ، المعتقل السياسي الخارج من السجن ، الفساد ، تصدعات المجتمع ، تأثير المال والسلطة في المجتمع ..) ، وفي هذا الإطار أكد الراحل في لقاء سابق أن العمل تعرض إلى جوانب هامة شكلت الإرهاصات التي أدت إلى الأزمة حيث سلط الأضواء على التركيبة الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية للمجتمع ، وأظهر قدرة المال على التأثير فله سلطة كبيرة ، ويمكن أن يشكل مصدر خطر خاصة عندما يقع بيد أشخاص لا يمتلكون قيماً ومبادئ ، وقد يكون السبب في إفساد العديد من الناس .
وضمن السياق نفسه لا بد من الإشارة إلى أن الراحل أخرج أعمالاً قام بتأليفها كتاب وروائيون ، منها على سبيل المثال لا الحصر (حارة القصر ، هذا الرجل في خطر ، حارة الملح) تأليف الكتاب عادل أبو شنب ، وقدم مسلسلات مأخوذة عن أصل أدبي لكتاب معروفين من بينهم صدقي اسماعيل ، محمد الماغوط ، ومن تلك الأعمال سباعية (أسعد الوراق) المأخوذة عن رواية (الله والفقر) ، مسلسل (البيوت أسرار) المأخوذ عن رواية (ثم أزهر الحزن) ، وهناك أيضاً (حكايا الليل والنهار) 2006 الذي أُخِذت أفكاره عن أعمال للكاتب الكبير محمد الماغوط مقدما ًمن خلاله حكايات شعبية تحمل روحه الناقدة الساخرة التي تدخل إلى عمق الإنسان فتظهر أوجهه المختلفة منتصرة للفقراء والمسحوقين ، هذه العوالم أثارت في مجملها أسئلة تحرك السواكن الداخلية عند الناس ليفكروا ملياً بواقعهم