رواياتُ الدمِ المهدور.. بالعقلية التكفيرية

 الملحق الثقافي:

في أغلبية رواياته، يرتقي الأديب الجزائري “الطاهر وطار” بالرمزية الواقعية. يناضلُ بقوة اللغة، وجرأة المبدأ، من أجل أن يقول للعالم بأكمله، بأن ما يهمّه هو خلاص بلده من المستعمر الظالم، مثلما الإرهاب المظلم، وبكلّ أساليب النضال التي تمكّن الإنسان، من العيش بمحبة ورقي وسلام، بعيداً عن كل العقائد والانتماءات الدينية.
تناول ذلك، في أعمالٍ منها “اللاز” التي حمّلها وقائع تاريخية وأفكاراً راسخة، في ذهنيته وذاكرته المرهقة من أحداث الواقع المأساوي. الواقع الذي عاصره وعانى من بشاعته، مثلما كلّ أبناء الوطن الجزائري.

8.jpg

حصل ذلك، إبان الاحتلال الفرنسي الذي واجهه بإبداعٍ برع في جعله ينتفض على المعاناة والاضطهاد والتعذيب والظلم والأغلال الاستعمارية، وعبر النضال سعياً إلى التحرّر، وترسيخ قيم الانتماء والمساواة والكرامة وسواهم مما نادت به، ثورة التحرير الجزائرية.
إنه ما سعى إليه وأراده يهزم الاستعمار والخونة من التابعين له. ذلك أنه يعشق البطولة، ويرى بأن “الأبطال تلدهم شجاعتهم وإيمانهم والانتصار والنجاح، دون الخضوع لأي سلطة تريد الإطاحة بمبدأهم، وتؤثر على إيمانهم بوطنهم”.
لاشكَّ أنها صرخته الأدبية والواقعية.. تلك التي قاوم بها الاستعمار الفرنسي، وأيضاً المتآمرين والمنقادين، لمصالحهم وجشعهم وحقدهم الجاهل والغبي:
“ألزمتموني أن أعيش في واقعٍ يعسرُ عليّ أن أتحمَّل مقوماته، فاسمعوا إذن صرختي وتحمَّلوها، وأوِّلوها كما شئتم”.
يصرخ وهو يشعر بالأسف، بسبب مغادرة غالبية الأصوات المثقفة جزائرها، هرباً من التطرف والعنف والإرهاب الذي ذبح وطنها وأهلها.. الإرهاب الذي لم يجد بداً من مواجهته بكلمته وقناعته: “الموت ساعة، وعندما تحضر تلك الساعة، تموت برصاصةٍ أو سكتة قلبية”.
هذا ما آمن به “وطار” الذي هزَّت أعماله مجتمعاً، تناول معاناته في ظلّ الاستعمار الذي خلَّف وراءه، شياطين الموت والبطش والذبح التكفيري.. الذبح الذي اقترفه سلفيون استخدموا الدين كوسيلة للقضاء على كلّ عقلٍ وروحٍ في وطنه، وفي زمنٍ جسّد أحداثه أيضاً، في روايته “العشق والموت في الزمن الحراشي”.
إنها أولى الروايات التي ارتفعت فيها كلماته ضد العنف.. عنف الإسلاميين ممن لم يتركوا أسلوباً من أساليب القتل والإجرام إلا واستخدموه، من أجلِ فرضِ أفكارهم الجاهلة والغادرة والحاقدة والقاتلة.
تحكي الرواية، عن أصعب الفترات التي عاشتها الجزائر. فترة السبعينيات التي بدأت بنهوض الإسلاميين الذين أشهروا عدائهم في وجهِ المتطوعين لصالح الثورة الزراعية. الثورة التي كانت “بطلة الرواية” من أكثر المتطوعات فيها، مثلما من أكثر المتضرِّرات الشابات، وبسبب جرأتها التي جعلتها تتألم، بطريقةٍ كان أبشعها عندما:
“رفعت الكرسي الحديد بكلتا يديها، وغطت بها وجهها.. استعدّت لشجِّ رأسه إذا ما تقدَّم منها.. قدَّرت أن خطَّته تنحصر في حرقِ وجهها بالأسيد.. هرب اللعين فأصابت بضربتها النافذة.. لم يعد الكرسي الحديدي بين يديها، فقد أفلت منها. خافت وهربت نحو النافذة المحطمة. أسرع يحولُ بين يدها والنافذة.. حزَّ يدها على الزجاج المحطم فتطاير منها الدم. أسقطها أرضاً وسارع إلى قارورتي الأسيد”.
إنها “الطعنات” التي توالت، كما حكاياه التي واكبت أثرها، وبعد أن شعر بأنه يعيش ليروي تفاصيل “الزلزال” الذي عاشه، في واقعٍ لا رأي فيه لآخر، ولا حياة في ظلِّ وحشية من تهافتوا لذبحِ الأبرياء، باسمِ “الله أكبر”..
نعم، هو الواقع الذي عاشه ووثّقه، في مجتمعٍ لم يكن من يمارس العنف فيه يتقبل إلا رأيه وقناعته وعقيدته. الواقع الذي أدماه تفكير الإسلاميين، ممن بدأوا باستغلال القرآن لتفسير ما يوافق تفكيرهم، وانتهوا باستعمال السكين والمتفجرات، وسوى ذلك من شتى أنواع القتل التي أفتى بها إرهابهم.
هذا ما يدور حوله مضمون الرواية. العنف الذي أدمى المجتمع بسكينٍ مزَّقت كل من عشق الحياة.. كل من اختلف مع تلك المجموعات التي تجسَّدت شرورها، في شخصية “شابٍ إرهابيٍّ، جمع أصحابه الستة قبل الغروب وأمرهم باتباعه إلى المسجد لأداءِ صلاة المغرب والعشاء، وما أن لمح أحدهم يتردَّد حتى هدَّده بنظراتٍ عنيفة مبربراً: «إن ثورتنا المسلحة، لم تتمكن من تجنيد الشعب إلا بالإسلام”..
هو خطابه، ولكلِّ من انقاد إلى ضلاله.. الخطاب المرعب في دعواته التكفيرية، والقاتل في سعيه المحرّض، عبرَ كلماتٍ ترعب من يسمع مفرداتها التي لا تمتُّ بصلة، إلى الأخلاق والإنسانية:
“اليوم، يوم شرح وتوضيحٍ، وبعبارة أخرى، بثّ الأفكار المسمومة والمستوردة. علينا أن نتصدى لهم، وأن نسفِّههم ونؤلب الرأي العام ضدهم. المهم أن نثير معهم معركة، نصطدم بهم، فمن منكم يتولى أمر الفتيات الضالات؟.. لقد أحضرتُ زجاجات الأسيد. ينبغي أن تصبَّ كلها على وجوههن. إن فعل هذا معناه، إنزال الرعب في قلب كل الجامعيات”..
حتماً، لم تكن هذه الرواية، هي الوحيدة التي تناول فيها “وطار” عنف الإسلام السياسي، فلقد توالت رواياته التي وثّق فيها بشاعة هذه الظاهرة بكل مراحلها، وإلى أن باتت القوى التكفيرية، قوة سياسية مهيمنة ومسلحة، بكلّ ما ينحرُ الحياة، ويهدر معانيها القدسية.

6.jpg

أما عن سبب إصراره على تناول هكذا موضوعات، فقناعته بأن التاريخ يعيد نفسه، وبأن القتل ظاهرة تاريخية قديمة ومتجددة بأكثر من لغة وأسلوب.. أيضاً، بسبب اختلافه الجذري مع الجماعات الإسلامية المنتشرة في الجزائر، ولكونه من ضمن الأدباء القلائل الذين فضَّلوا البقاء في بلدٍ، هرب غالبية مثقفيه، في الفترة التي كان فيها بأمسِ الحاجة إليهم. الفترة التي عاشتها وعانت من عنفها جميع الفئات، حتى تلك التي هربت من محنة التقتيل، التي أصابت وهجّرت وهدّدت: “أصابت مثقفين وهجرت مثقفين، وهدّدت كُثراً من المثقفين الآخرين”..

إنه التقتيل الذي أكثر ما جسد بشاعته، والعنف الذي فيه وبلغت ذروته، في رواية “الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي”. الرواية التي تناول فيها، مرحلة حساسة عاشتها الجزائر مطولاً.. مرحلة الإرهاب الذي اقترف مجازر وجرائم كثيرة وفظيعة، تجاوزت في وحشيتها ما وصفه بالهمجية.
هي رواية، رغم ما فيها من تجريد وسريالية، إلا أنها جداً واقعية، ففيها يتناول زمانه الذي حذّر منه، وها هو يتكرّر ويجعلنا نتذكّر قوله:
“احذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى خوض غمار الحروب، فتشارك في حروبٍ جرت، وفي حروبٍ تجري، وفي حروب ستجري، إلى جانب قوم تعرفهم، وقوم لا تعرفهم ولا تفقه لسانهم، ولا تدري لماذا يحاربون. أحذرك يا مولاي من سفك دمي. ستلحقك بلوى حزّ الرؤوس وخنق الأطفال والعجائز والعجزة، وحرق الأحياء”.
هكذا، تصير الأزمات وقائع لا مفرّ منها، والحياة ساحة لنحرِ الناس وتمزيقهم. الموت ضريبة الحياة والعقل الواعي، والقهر والألم والمعاناة والنزيف، قدراً يفرضه جميع الخارجين عن القانون والأخلاق والدين الإنساني.
يفرضه من قال “وطار” عنهم وعن دونيتهم: “لم يُفهم من لغتهم، ومما هم يفعلون، سوى إطلاق الرصاص على أناسٍ في الطرف الآخر من الوادي.. اشتدَّ الوطيس وارتفعت الحناجر تكبِّر في هذه الضفة ومن تلك.. كانت البنادق تسعلُ والرصاصُ يغرِّدُ، وكانت المدافع تنبح في قمم الجبال. ارتفعت الحناجر تهلل وتكبِّر، وامتلأ النهر بالجثث حية وميتة، ودكن لون الماء واسودَّت السماء”.
نعم، هي أعمال واقعية، محمّلة بالكثير من نقمة “وطار” ومفرداته على عصرٍ تحكمه الجاهلية العقلية.. العصر الذي ما أكثر ما سأل فيه التاريخ، عن كيفية تمكن الإنسان من معايشة الفجيعة، وعن كيفية تمكنه من التحول إلى كائن عاجز عن إدراك ماهيَّته وسط مشاهدٍ عديدة من عمليات الحرق والقتل والذبح، وفي زمنٍ سلاحه الساطور والسكين وعقيدته مرتدة، إلا عن تكفير الآخر وإبادته بشتى الطرق المريعة..
سأل التاريخ أيضاً، عما إذا كان الزمن، للمراهنين على العنف، بهدف إراقة ساحات الوطن بالدماء. الزمن الذي كان شاهداً على فظاعة إرهابييه، وموثّقاً لما سيبقى لعنة على من راهنوا:
“راهنوا على العنف.. انفتح الباب.. على اليمين تلصق عجوز وجهها على الجدار.. في الزاوية، وتحت الطاولة يتخفى طفلٌ في السابعة من عمره.. ارتفعت صرخته: أمي.. أمي.. أبي.. هوى الفأس على الطاولة ومن تحتها، انفجر الدم في كلِّ مكان.. في الزاوية الأخرى، تنكفئ امرأة على نفسها، وفي حضنها رضيع،، تبذل قصارى جهدها ألا يلفت الانتباه إليه، لكنه خانها. هوى الساطور يقسم الرأس المغطَّى بمنديلٍ برتقالي اللون، فهوى الطفل على الأرض.. امتدت تدوسه الأقدام.. فار الدم.. صارت الجدران تتراقص… توقفت الحياة في المنزل”..
هكذا جسّد ووثّق “وطار” العنف الذي عانت منه بلاده على أيدي المجموعات الإرهابية. جسّده في رواياتٍ، لا يمكن تسميتها إلا روايات الدم المهدور، بشتى أنواع الشرِّ المستخدم، باسم الدين ولأغراض سياسية..
هكذا جسّد مجازر الإرهابيين السلفيين والتكفيريين، وفي روايات استشرى العنف في صورها وتوصيفاتها، وفاض الدم في كلماتها وعلى صفحاتها، وبعد أن سكنته الفجيعة التي جعلته، يصف قسوة ما وصفه:
“أكثر من أربعمائة جثة مسجاة هنا وهنا، وكومة من الرؤوس مكدَّسة وسط الشارع.. أيضاً، مجموعة من الفتيات المقيدات والمقتادات نحو حافلة أمامها أربعة أو خمسة يكبِّرون، ثمَّ….”..
ثمَّ ماذا؟.. حتماً نعرف الإجابة وتشهد عليها أعيننا وواقعنا الدموي، كما شهدَ “الطاهر وطار” بعينيه وواقعه المأساوي.. نشهدُ على ما وثّقته رواياته التي دفن فيها الحياة وشيّعها بمفردات الموتِ والسواد. فيا ترى، هل مازال هناك عيون ترى، ولاسيما لدى من غادر البلاد؟..

التاريخ: الثلاثاء19-1-2021

رقم العدد :1029

 

آخر الأخبار
"أموال وسط الدخان".. وثائقي سوري يحصد الذهبية عالمياً الرئيس الشرع  وعقيلته يلتقيان بنساء سوريا ويشيد بدور المرأة جعجع يشيد بأداء الرئيس الشرع ويقارن:  أنجز ما لم ننجزه الكونغرس الأميركي يقرّ تعديلاً لإزالة سوريا من قائمة الدول "المارقة"   أبخازيا تتمسك بعلاقتها الدبلوماسية مع السلطة الجديدة في دمشق  إعادة  63 قاضياً منشقاً والعدل تؤكد: الأبواب لاتزال مفتوحة لعودة الجميع  84 حالة استقبلها قسم الإسعاف بمستشفى الجولان  نيوز ويك.. هل نقلت روسيا طائراتها النووية الاستراتيجية قرب ألاسكا؟       نهاية مأساة الركبان.. تفاعل واسع ورسائل  تعبّرعن بداية جديدة   تقدم دبلوماسي بملف الكيميائي.. ترحيب بريطاني ودعم دولي لتعاون دمشق لقاء "الشرع" مع عمة والده  بدرعا.. لحظة عفوية بلمسة إنسانية  باراك يبحث الملف السوري مع  ترامب وروبيو  مبعوث ترامب يرحب بفتوى منع الثأر في سوريا   إغلاق مخيم الركبان... نهاية مأساة إنسانية وبداية لمرحلة جديدة  أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد