الملحق الثقافي:د. سعيد عدنان :
كان الفكر العربيّ الحديث، قد شهد منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، دعوات إلى العقل والحريّة وروح الاستنارة، وشيء من العدل الاجتماعيّ، من أجل أن يغادر العرب وهدة الظلام التي تردَّوا فيها زمناً طويلاً، وأن يصلوا من حضارتهم ما انقطع.
وقد كانت الدعوة إلى العقل، في وجهٍ من وجوهها، تسعى نحو الخروج من أسر التاريخ، ونفض غبار الزمن الماضي، لئلا يظل الأموات يحكمون الأحياء، وكانت الدعوة إلى الحريّة يراد بها طرد المستعمر، حتّى تتملّك البلاد أزمّتها، وتدير شأنها، وكان يراد بها أيضاً، أن يكون الإنسان حرّاً في فكره، وما ينطوي عليه ضميره.
كلتا الدعوتين. الدعوة إلى العقل، والدعوة إلى الحريّة متكاملة، لا تغني إحداهما عن الأخرى، فإذا تمّ ما يراد منهما سلك المجتمع سبيل الاستنارة، ودنا شيئاً ما ممّا يرجوه من عدل اجتماعي؟!.
لقد بذل في سبيلهما رجال الفكر جهداً حميداً، كان من أوقد شعلته «رفاعة رافع الطهطاوي» حين اقتبس قبسات من الفكر الفرنسي، وعندما أُرسل إلى فرنسا مع البعثة الدراسيّة، ليكون إمام صلاة، فكان إمام صلاة، وإمام فكر، يرتاد النافع المفيد لأهله، وبقيت الشعلة التي أوقدها في سبيل مفارقة الظلام وما يتصل به، تتّقد وتخبو على قدر ما يأتيها من زيت، ويتهيّأ لها من هواء نقي، لكنّها لا تفتأ تبتغي أن تمسّ مرافق الحياة كلّها، وأن تنشر فيها ضياء بنحوٍ ما.
وقد أُتيح لوهْجها أن يسطع عندما هبط مصر «جمال الدين الأفغاني»، وأشاع أسئلة عن النهضة وأسبابها، وعن التواني الذي يُثقل الرقاب، ولقد لقي فكره تقبّلاً حسناً لدى رهط ممّن كان معنياً بعبء النهضة بعد الرقاد، يجيء في طليعة هؤلاء، محمّد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيّد.
على أن أمر الحريّة وما هو منها، كان قد استحوذ على «عبد الرحمن الكواكبيّ» فوضع «طبائع الاستبداد» يُبيّن فيه ما يجني استبداد السلطة على الناس فيفلّ قواهم، ويفسد أخلاقهم حتّى لا تبقى لأحد معه كرامة.
ولا يبعد ما صنع الكواكبيّ عمّا أبقى جمال الدين الأفغانيّ من أثر في تلاميذه، فلقد سعى «محمّد عبده» ينظر في الدين نظر العقل، ويستبعد ما ألقى عليه السلاطين من ظلال كئيبة تؤذي الإنسان، وتحبط عزيمته، وبدا لـ «قاسم أمين» أن حريّة المجتمع لا تتمّ ما بقيت المرأة مقهورة، مغلوبة على أمرها، وأن لا بد لها من أن تخرج من أسرها القديم، حتّى يبلغ المجتمع ما يصبو إليه في تمام حريّته.
أيضاً، رأى «أحمد لطفي السيّد» أن غذاء العقل إنّما يكون بالفلسفة، فشرع يترجم آثار أرسطو، يريد بها أن تزيد من النزوع العقليّ، وترسم له مساره، وجعل مع الترجمة، يكتب المقالات في صحيفته «الجريدة»، يمهّد بها سبيل الاستنارة ومغادرة الظلام، وقد نفذت أشعّة من فكره في جملة من طليعة ذلك الجيل الناشئ في مطلع القرن العشرين، مثل طه حسين، وعليّ عبد الرازق، ومحمّد حسين هيكل، والعقّاد، وغيرهم، وكلٌّ كان يزيد من زيت مصباحي العقل والحريّة.
كان «طه حسين» قد اتّجه نحو التاريخ والأدب، يريد أن ينفي عنهما ما خالطه زيف وكذب، وأن يُقيمهما على أساس سليم يرضاه العقل، وكان «عليّ عبد الرازق» قد رأى أنّ الخلافة شكل تاريخيّ من أشكال الحكم، وليست شيئاً من جوهر الدين، وأنّ أوزارها لا يصحّ أن تقع على مقصد التنزيل العزيز، بل هي أوزار البشر وهم يصنعون تاريخهم محكومين بأحوالهم الاجتماعيّة، وبما يسعهم من معرفة.
ولم يُطفئ جذوة المنحيين مالقي صاحباهما من عنت وأذى، فلقد بقي صداهما يتردد، ووجدا من يصيخ إلى ما فيهما من جدّة جريئة.
وإذا كان هذا الاتّجاه العقلانيّ التنويري، يرجع إلى ما سنّه رفاعة الطهطاويّ، وجمال الدين الأفغانيّ، وأرادا له أن يكون جذره العربيّ الإسلاميّ، جذراً حيّاً قادراً على أن يمدّه بالغذاء، وألا يستبدّ به ما يرد عليه من الفكر الأوربيّ الحديث، فإنّ اتّجاهاً آخر كان يحمل شعلة العلم والعقل ويتّجه نحو الحريّة، والعدالة الاجتماعيّة، لكنّه لا يُعنى كثيراً بالجذر العربيّ الإسلاميّ، قد جعل يأخذ مداه في الفكر الحديث منطلقاً من مجلّة «المقتطف» وما أشاعته من جوّ العلم التجريبيّ، وأنّ طريق الحقيقة مرهون به، وكان من رواده: يعقوب صرّوف، وشبلي شميل، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب دارون «أصل الأنواع»، وكلّهم انصبّت عنايتهم بنحو ما على نظريّة التطوّر، ورأوا فيها عنوان العلم الذي ينبغي أن يقتدى به في مسالك الحياة.
زيادة على ذلك كلّه، كان للجامعة المصريّة القديمة يوم أُنشئت في مستهل القرن العشرين، شأن حسن في مناهج الدراسة، وطرائق السعي نحو الحقيقة، والاحتكام إلى العقل، وتطلّب الحريّة الاجتماعيّة والفكريّة، ولو لم يكن في النظام السياسيّ القائم يومئذٍ، على ما فيه، ما يُتيح لأنماط من الفكر الحرّ أن تنشأ وأن تنمو، وأن تأخذ مداها، لما تمّ شيء من ذلك.
ولم يكن الأدب القصصيّ بعيداً عن تمثّل قضايا العقل، والحريّة، والعدالة الاجتماعيّة وأسئلتها الكبرى، فقد عبّر عن ذلك توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، منذ ثلاثينيّات القرن العشرين وأربعينيّاته، ومهّدا لغيرهما من الأدباء طريق الاستنارة، ومغادرة الظلمات القديمة.
ومضى نهج الاستنارة صاعداً يزيد من رصيد العقلانيّة والحريّة، ويسعى أن يمكّن لهما، فكان زكي نجيب محمود، ودعوته الجهورة إلى سلطان العقل المستضيء بالعلم التجريبيّ. كان أيضاً، فؤاد زكريّا بتفكيره العلميّ الرصين، الذي يسلّط أشعته على كلّ ما يتناوله من قضايا، وكان آخرون.
لكن، ما كاد القرن يبلغ منتصفه، حتّى دبّ فتور في شعلة المصباح، وحار ضوؤه، ونشأ في الجانب الآخر من يريد أن يرجع بالزمان، ويستعيد ما كان!. وما إن تقدم الزمان في النصف الثاني من القرن، حتّى لم يبق ممّن يحمل جمرة الاستنارة بين يديه، إلّا أفراد قد ضاق أمامهم الأفق.
ولعلّ من أسباب ذلك، أنّ أفكار الاستنارة ظلّت في حيّز النخبة تدور بينهم، في الكتاب والمجلّة والمحاضرة، ولم تصل إلى جمهور الناس، تفصلها عنهم أميّة شائعة ورغبة، عند من يقرأ عن الفكر وما يتّصل به، ثمّ إنّ التعليم لم يستطع أن يستوعب زيادة السكّان، فنشأت أجيال رديئة التعليم، تغذّيها الخرافة ويقودها الجهل، وإذا تضاءلت الاستنارة ساد الظلام، وطفقت الأشباح تُقبل من زوايا التاريخ.
كاتب وباحث عراقي
التاريخ: الثلاثاء26-1-2021
رقم العدد :1030