«حوار الضوء والخشب» في معرضِ النحات «شفيق الغبرة»

 الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:

شيءٌ ما يجذبني ويخطف بصري. خشبٌ مضاء، ضوءٌ يحتضن الخشب، أم خشب يحتضن الضوء ويتماهى فيه بعناق أبدي؟.
وأنا في طريقي إلى قاعة محاضرات الجمعية الكونية السورية، لحضور محاضرة «من اللغة إلى الرياضيات»، دخلت المعرض بشغفي المعتاد، رأيت الفنان المهندس «شفيق الغبرة» مع المهندس «فايز فوق العادة» الذي كان يحدثه، مبدياً إعجابه بهذا العمل الفني الرائع الذي جعله يسأله، متى بدأ العمل بالنحت وكيف تعلمه؟. ليرد الفنان، بأنه بدأ بالنحت بعد سنِّ الخمسين، وهو موهبة يمتلكها وليست علماً يتعلمه، وإنما هو حبّه وشغفه بهذا العمل الذي تعلق به حدّ التماهي فيه، وبأنه يحب جميع الفنون ولديه مكتبة موسيقية ضخمة عن مشاهير الموسيقيين في العالم.
طلب منه كونشيرتو بيتهوفن التاسعة، فبادر الفنان «غبرة» بإرسال ما طلبه من جواله إلى الميكروفون المكبر، لينطلق صوت الموسيقا عذباً مسترسلاً بانسيابية ملتحمة مع المنحوتات، يتناغم مع كلٍّ منها على حدة، وبدأت المحاكاة بيني وبين المنحوتات، المتنوعة النوع واللون والحركة والضوء. أخذت انطباعاً أولياً، ومن ثمَّ سألت الفنان عن نوع الخشب الذي يتناوله في عمله. كان الخشب بأنواعه لكل منحوتة. الزيتون والتوت والتين والجوز، والليمون يسود المعرض بمقاطعه اللافتة ورسومه المبدعة.
وبسؤاله عن بدء الفكرة لديه كيف ومتى، قال: عندما توقف عملي مهندساً مستشاراً في الشركة النفطية، بحثتُ عن عملٍ أحبه، ولأني شغوفٌ بالخشب وأحبه وأعشقه، ذهبت إلى الأرياف وبحثت عنه بلهفة المشتاق، وكنت أجد في الأخشاب المقطوعة للحرق مرادي.
بدأت العمل في أول الحرب، وكنت في الخمسين من عمري. أصبح عملي يتطور ويزداد، وطموحي في عدم الرضا يحفزني للأحسن والأفضل، ولاقت منحوتاتي إقبالاً وإعجاباً.
كان أول معرض لي عام ٢٠١٨م. حوار الضوء مع الخشب في مديرية ثقافة دمشق. المركز الثقافي بأبو رمانة، والمعرض الثاني واليوم، حوار الضوء مع الخشب الثالث.
كثرٌ من الفنانين العباقرة بدؤوا في عمرٍ متأخِّر.. في سنّ الخمسين. «ليونارد دافنشي» بدأ الرسم في هذا العمر، وكانت معجزته «الجوكندا»، كما برع في العديد من الفنون والمجالات.
ما نلاحظه في المعرض، إمكانية استخدام المنحوتات في الإنارة والاستعمالات المنزلية، فهناك منحوتات على شكل كلوب، وأيضاً طاولات سفرة مصنوعة من جذع الزيتون. مثلا «منحوتة الزيتون المضاءة» وهي عبارة عن طاولة سفرة قطرها ١٣٠سم وجذع المنحوتة قطره ٨٥ سم، وهي مكتبية ومن خشب الليمون الأصفر.
يظهر الفنان جمالية جذع الزيتون بمنتهى الفن. تبدو لمساته واضحة ولا يستعمل في النحت سوى السكين والإزميل والمثقب، لتبقى المنحوتة محافظة على جمالها وشكلها ولونها الطبيعي، فتبدو أكثر روعة وإبداعاً يشارك فيه، بأفكاره وبإظهار هذا الجمال، فنرى تداخل الضوء مع الجذع يتماهى ويتلاحم بكينونة، ويرسم صدى وجوده.
في يد الفنان اللمسة السحرية، توضِّح هذه المقاطع لجذوع المنحوتة، وبتركيز اللون الحقيقي لها بمادة اللكر، لتسطع معانيها ورسومها الطبيعية وتصبح واضحة المعالم والرسالة.
وفي كل منها، يتعشق الضوء بمخابئها التي ترسم وتخط عالماً خاصاً بها، فمثلاً: «منحوتة الساعة» يحاط بها الضوء بشكل دائري، وهي كلوب. ترى خشب التوت فيها يدلُّك على ذاته وعمقه الزمني، فقد تناول فيها الفنان الزمن بمدلولاته الكثيرة عن الأشياء والوجود.
أما «منحوتة الطائر الجميل البومة» فهي من خشب الزيتون، وفيها أراد أن يقول، إن البومة وفية ودودة وبريئة، وأظهر هذه البراءة في عينيها فبدت في قمة الروعة، تحاكي الغصن وتنشد الحياة.
كل جذعٍ وغصنٍ من الأشجار، يحاكي مرحلة حياتية وبيئية، تناغم وعارك فيها وتراقص مع معانيها ورافق أعاصيره.
وترى هذه المنحوتات الخشبية، من زيتون وتين وجوز وتوت وليمون، تحاكي تفاصيل هذا الكون وأناشيده وحركته، وكأنها ترسمه وتنقشه وتبعث شرارته في كل خطوطها.
«منحوتة التين» لوحة سريالية، أنطقها النحات بيده، ودبَّ فيها الروح لتخاطب روحه. قاعدتها رأس دب وعين حوت، وقوامها إنسان يحتضن كائنات أليفة بعناق مبهر، وكأنه رحم لها كلّها. كلب وأطفال بريئة تعاند وجودها القدري والمجهول. منحوتة التين، تبين الإعجاز في إخراجها، بكينونة مرهفة للحس ومحفزة للفكر.
أما «منحوتة الإنسان» الذي لوته الحرب والأيام، وأكل الزمن عليه وشرب، فتظهره مهزوماً ومحطماً، وببطنٍ مبقور، فلتت سرته من لوح محفوظ.
نعم، كان للحرب أثرها في نفس الفنان الذي عكس ذلك على منحوتاته، وهناك العديد من المنحوتات التي يتناغم فيها الضوء الطبيعي مع الخشب، ويتعشق به بلمسة يد الفنان التي أحدثت ثقوباً تتلاءم وحالة الخشب، بأشكال فنية تسامت إلى أن ارتقت عيوناً بيضاء.
«منحوتة آدم وحواء في حضرة الضوء» من الزيتون، أما «منحوتة الهرم» فهي من الجوز. تعانق الضوء إلى قمته، فيؤكد أنه أساس الحياة ورونقها، ورحيق زهرها ودونه تصبح عدم.
هذه الحالات العديدة والمتنوعة من الضوء، تؤكد كم هي مساحات الحياة، هي الوجود ومعانيه التي لا تنتهي.
عندما سألت الفنان: ما هدفك ورسالتك، قال: أن أصل إلى الرضا مما أعمل، وما زلت أبحث عنه وأطمح إليه، كي أشعر باللذة والنشوة التي أشغف بها وأتلهّف إليها، وهي في كل فكرة تتسابق إلى خيالي وعقلي، تدفعني لنهب الدروب في إيجادها وتجسيدها، بالبحث عن هذه الأخشاب التي تروق لي وتلهمني في خلقها كما يجب.
الحقيقة، كل منحوتة تأسرك وتشدك إلى عالم من التأمل لوقت طويل. تحدثك وتحدثها بلهفة الباحث والمشتاق إلى تفاصيل وجودها وانبعاثات معانيها وصدى عمقها، فلا تفلت منها بل تلتفت إليها وقد تقتنيها وتجعلها في بيتك، صديقة الطبيعة وما تحاكيه من صور ورسائل عشق للإنسان، الذي انغمس بها بشغفٍ كما فناننا الراقي «شفيق الغبرة».

التاريخ: الثلاثاء26-1-2021

رقم العدد :1030

آخر الأخبار
إعزاز تحيي الذكرى السنوية لاستشهاد القائد عبد القادر الصالح  ولي العهد السعودي في واشنطن.. وترامب يخاطب الرئيس الشرع  أنامل سيدات حلب ترسم قصص النجاح   "تجارة ريف دمشق" تسعى لتعزيز تنافسية قطاع الأدوات الكهربائية آليات تسجيل وشروط قبول محدّثة في امتحانات الشهادة الثانوية العامة  سوريا توقّع مذكرة تفاهم مع "اللجنة الدولية" في لاهاي  إجراء غير مسبوق.. "القرض الحسن" مشروع حكومي لدعم وتمويل زراعة القمح ملتقى سوري أردني لتكنولوجيا المعلومات في دمشق الوزير المصطفى يبحث مع السفير السعودي تطوير التعاون الإعلامي اجتماع سوري أردني لبناني مرتقب في عمّان لبحث الربط الكهربائي القطع الجائر للأشجار.. نزيف بيئي يهدد التوازن الطبيعي سوريا على طريق النمو.. مؤشرات واضحة للتعافي الاقتصادي العلاقات السورية – الصينية.. من حرير القوافل إلى دبلوماسية الإعمار بين الرواية الرسمية والسرديات المضللة.. قراءة في زيارة الوزير الشيباني إلى الصين حملات مستمرة لإزالة البسطات في شوارع حلب وفد روسي تركي سوري في الجنوب.. خطوة نحو استقرار حدودي وسحب الذرائع من تل أبيب مدرسة أبي بكر الرازي بحلب تعود لتصنع المستقبل بلا ترخيص .. ضبط 3 صيدليات مخالفة بالقنيطرة المعارض.. جسر لجذب الاستثمارات الأجنبية ومنصة لترويج المنتج الوطني المضادات الحيوية ومخاطر الاستخدام العشوائي لها