الملحق الثقافي:د. عبد الله عيسى :
الطفل ذاك، الأسمر النحيل في مريوله المدرسيّ، رصاصيّ اللون، المتشح بوشاحٍ بلونٍ برتقالي طازج، وطاقية مخروطية الشكل على الرأس. الطفل ذاك، هو أنا، وبشعرٍ أطول قليلاً من أقراني، فقد كان أساتذتي، لأنني كنتُ أشطرهم، يوارونني عن أعين مفتشي مديرية التربية الذين يفدون عادة إلى مدرستنا. “ابتدائية ببيلا للبنين”، ليتيقنوا من نظافة طلابها، بما في ذلك الشعر والأظفار.
ذاك الطفل، في الصف السادس، في ربيعه الثاني عشر، يتذكر الآن تلك الرحلة المدرسية إلى “معلولا”.. المدينة التي مسَّ روحي بها ما مسّها، مذ تهتُ طفلاً عن أقراني وأنا أتأمل الجمال المقدّس، المنبعث من أيقونتي السيد المسيح والسيدة مريم العذراء عليهما السلام. “معلولا” التي عدتُ إليها بعد عشرين عاماً، أبحث بين ملامحها عن وجهي الأسمر النحيل، وعن ظلالي التي توحدت بأحجارها.
كأنها تهبط من السماء حين تصعد إليها، وقد أسند الجبل بيوتاتها وكنائسها وأديرتها، فيما تشعر وكأن الرب ينفخ فيك الروح من جديد، لطالما تتنفس هواءً طازجاً، وكأن رئتيّ مخلوق قبلك لم تمسسه “لم أكن أنا الطفل آنذاك.. أعرف أن اسمها مشتق من السريانية، ويعني المكان المرتفع ذا الهواء العليل”، وكما لو أنَّ الكنيسة والأضرحة المحفورة في قلب الجبل الراسي على الأرض ليحميها من الوقوع، وكأن تلك الأوابد التي عاشت منذ القرن العاشر قبل الميلاد، تجعل التاريخ أكثر قابلية لتذكر روايته الأولى.
كنا نعتصم بأيدي بعضنا، كما أمر أساتذتنا، كي لا يضيع أحدنا عن الآخر، ونحن نصعد إلى أعلى من البيوت التي وضعت طبقات، لتصير سطوحها معابر لما فوقها.
يا إلهي!. يكاد العرق ينبعث من بين أصابعنا، ونحن نشدُّ على أيدي بعضنا بعضاً، ونحن نمخر الشق الذي جُعل في بطن الجبل ممراً، نعبره بين طرفي الجبل الكبير. الساقية التي تفجَّر عنها الصخر، باردة في حمأة ذاك النهار الملتهب بشمس وقفت فوق الرؤوس تتأمل المشهد العظيم، وإذ غسلت وجهي بها رأيت الحياة كلها تتجوَّل في أعضائي. ماء مقدسة يأتون من كلِّ فجٍّ عميق ليتطهَّروا بها، وكأنني عدتُ بعد عشرين عاماً، ذاك الطفل الأسمر النحيل في مريوله المدرسي، وأنا أتلمس روحي في ذلك الماء المقدّس، فتعود إليَّ طاهرة من الخطايا التي أورثُتها جسدي.
لكن ما مسٌني من تلك الأيقونة؟!. السيد المسيح ينظر إليَّ بعينين محبّتين رؤومتين، وكما لو أنه وهبني، أنا الطفل ذاك، تلك الهالة النورانية التي ما تزال تطوّقني بعد عشرين عاماً. السيد المسيح عليه السلام يخصّني إذن بكل هذا الحبّ. يا إلهي.. لم أعثر على يدي الطفلين اللذين كنت أعتصم بهما، كما أمرَ أساتذتنا.. بحثت عن تلك الأصابع الصغيرة التي كانت تشدُّ على أصابعي النحيلة، فلم أعثر عليها بعد عشرين عاماً.
طويلاً، وقفت في كنف السيد المسيح، والسيدة مريم العذراء عليهما السلام، وأيقونة العشاء الأخير “لم أكن أنا الطفل ذاك، أعلم أن هذه الأيقونات تعود إلى ما بين القرن الثاني والرابع الميلاديين”. كان النور يشع في قلبي، بينما تسللت أشعة الغروب خجولة إلى المكان. التفتُّ حولي، فلم أرَ إنسياً، وعدت بعينين خائفتين إلى السيد المسيح.. كأنه ما يزال يبتسم لي، وإذ رأتني السيدة مريم العذراء مدّت لي يدها، وأصابتني الزلزلة.
يا إلهي!. يد ٌ حانية على كتفي تنبض بالرحمة، فيما الصوت الحاني عليّ هادئاً مطمئناً يشعُّ بأوصافِ السكينة في خلاياي: “اطمئن”، وأخذتني من بين يديّ، وأنا أفتح رئتيَّ بما لا يطاق، على الروائح ذاتها التي تهبط من السماء، طاهرة بيضاء من غير سوءٍ إلى حيث أمِنتُ من خوف، بين أطفال مثلي ربما تاهوا في لدن هذا الجمال الإلهي المقدّس عمن سواهم، وأُطعمتُ من جوع خبز القربان. كأنه ذلك الخبز الذي قسمه السيد المسيح في العشاء الأخير. أتذكر هذا وأنا أتأمل الأيقونة بعد عشرين عاماً. أنا مثلك يا سيدي خانوا عشائي الأخير، وأقول لهم، وأنا أطعمهم خبزي وملحي: “ذا جسدي فكلوه، وهذا دمي نبيذ لكم فاشربوه”.
أنا يا سيدي مثلك، أصعد أعلى الصلبان صارخاً: يا إلهي، لماذا تركتني وحدي؟؟. ومثلك حين أتوحد بالرحمة الإلهية، ويمتلئ قلبي بنور الله، ويتعافى جسدي من خطاياه. مثلك أقول: “اغفر لهم، إنهم لا يدرون ما يفعلون.”
كأنني أعبر درب آلامي، ألج في شق “مار تقلا”. الشق نفسه الذي قسم الجبل، ليحمي القديسة تقلا التي حكموا عليها بالموت من الجنود الرومان. أصعد أعلى إلى دير سركيس، لم أكن أنا ذلك الطفل الأسمر النحيل المأخوذ بسحر المكان أعلم، أن المذبح والقبة معمولتان على أنقاض معبد يوناني يرجع للقرن الأول الميلادي.
لكنَّني، وبعد عقدين من بحثي عن نفسي، في ذاك المكان الذي يتكلم فيه البشر والحجر والهواء والماء والسماء والأشياء بالآرامية، لغة السيد المسيح، أتأمل جدران الدير، وأتلمّس ببصيرة من يتشبّه بحوذيّ الوقت. أتلمّس الخشب الذي عمره أكثر من قرنين ونصف، والذي رُصف بين الأحجار بعناية هندسية بالغة الدقة، ليحفظ الجدران من السقوط حتى وإن زلزلت الأرض تحته.
أنا ذاك الأسمر النحيل، ما أزال أصادق الشمس التي تصعد من الشام، لتبقَ على امتداد النهار كله في معبد “دير سركيس” المعمول بطريقة هندسية عجيبة لا تغادره معها الشمس أبداً. أجلس الآن في شرفة مقهى موسكوفي. أحتسي قهوتي الاسبريسو ومعها الكوكا كولا كعادتي، فيما الشمس تتلوى في الشارع على أجساد العابرين إلى يومهم مستبشرين. لقد تألمت روحي من وحشية ماحلَّ بالشام وبمعلولا، وكنتُ كلّما تأمّلت الأيقونات ذاتها التي تهت بجمالها الروحاني الأخاذ، أقول: إلهي!. لا تغفر لهم، إنهم يدرون ما يفعلون..
شاعر وأكاديمي فلسطيني
التاريخ: الثلاثاء26-1-2021
رقم العدد :1030