تترك وقائع الحياة بحلوها ومرها آثارها على المجتمعات أفراداً وجماعات …إن خيراً أم شراً فلا يمكن لأي إنسان خاض سنوات عمر تجاوزت الثلاثين أن يكون قد عبرها دون ندوب، دون أن تترك عقابيل كثيرة على الجسد والروح ..
وأكثرها صعوبة صدأ الروح وما يترسب في أغوار النفس البشرية يتراكم حتى يصل حد التفجر، إن لم يتم تفريغه ..ومن المعروف عنا نحن السوريين أننا شعب جاد أكثر من اللازم..أطعم الحياة أجمل سني عمره، أعطى العالم، وجاع من أجل أن يشبع الآخرون، ولكن حصاد رد الجميل حين كان يجب أن يكون جاء ريحاً صرصراً.
نعم، نحيط أنفسنا بالكثير من الصرامة والجدية والعبوس …لكن ما خلفته الحرب العدوانية على المجتمع السوري ترك أثراً آخر مع استمرار العدوان ..وكان لا بد من اللجوء إلى ابتكار وسائل تفريغ نفسي ..”من المأساة تنبع الفكرة” … فمن يعمل على جمع الطرائف التي ابتكرت خلال هذه الحرب علينا فسوف يقع على ما يملأ مجلدات…
وعلى سبيل المثال لا الحصر – وقد حدث ذلك – وقع شجار بين شابين في حافلة نقل عامة ..صاح أحدهم بالآخر: (والله لأخرب بيتك).. فرد الثاني: بالله (عليك بس تلاقي عندي بيت خربه) ..كانت الإجابة كما لو أن جرحاً عميقاً حز الجسد.. ابتسامة ألم حلت على الجميع وانتهى الموقف بالمصافحة.
ومن باب الطرافة أني ذات يوم كنت أترقب الحلاب من على شرفتنا ..وقربي حفيدتاي .. بدأت الحديث عن تلك الأيام التي كنا نرعى فيها الأبقار والحليب مدرار ..لا أحد في القرية يشتري حليباً من ليس لديه حليب يصله ممن لديه ..عرف اجتماعي غادرناه ..
ترد حفيدتي مريم:(منيح ما صرتم بقر).
عذراً لبراءة الجواب…لكنه فعلاً لامس واقعاً مؤلماً جارحاً في الريف السوري ..وقع الجواب صادماً على من كان موجوداً من البيت ..ابتسمت وقلت لها: فعلاً اقتربنا مما تقولين…
ما الذي يجعل قرى كاملة لا يوجد فيها بقرة واحدة، وكانت مراعيها تضيق بقطعان البقر والماعز والغنم …نعم يا صغيرتي ( أقول دائماً وعلى نفسي وليس غيري.. يوم تركنا تربية البقر… صرنا…).
تقفز حفيدتي الثانية مايا ..لتقول ..(جدو بدك دكتور تفتير)..
أي دكتور تفكير ..وأسألها لماذا يا صغيرتي ? تبتسم …لأنك دائمً تعصب علينا..
نعم، يا صغيرتي، ثمة جراح عميقة تحفر مجراها في الدم والقلب والعقل، تبدو على الوجوه أخاديد وحفر … لكن لابد من مسحها بأي طريقة والسوريون ابتكروا الكثير الكثير..
ومن باب الطرافة التي يجب أن تبقى موجودة …يروى أن مريضاً نفسياً أصابه وسواس قهري إذ يظن نفسه حبة قمح ..في عيادة الطبيب اقتنع المريض أنه ليس حبة قمح ..لكنه قال للطبيب: ومن الذي يقنع الدجاجة أني لست حبة قمح ..؟
نعم، صغيرتي…كلنا نحتاج أطباء تفكير وأروع الأطباء الأمل وأنتم ..الحياة والناس والعطاء وسقف الوطن المنتصر الشامخ.
معاً على الطريق ..ديب علي حسن