الملحق الثقافي:كميل أبو حنيش :
أجمل ما في عالمِ السّجن الذي يأسرك، أنّه يتيحُ لك أن تقيم صومعة للعزلة رغم حالة الصّخبِ من حولك، لتخلو بذاتك بعد أن تكون قد تدرّبت على تعطيل الحواس، فيتوفّر لك مناخٌ ملائم لهذه العزلة الجميلة، ولبضعِ ساعاتٍ وحسب.
أرخي ستائر القلب أثناء الاعتكاف، ولا يكسرُ خلوتي مع الذّات إلّا عامل قسريّ، كالعدد والتّفتيش الأمنيّ الفجائيّ، أمّا جميع من هم حولي، فلديهم مثلي طقوسهم مع العزلة، وهناك أسفل صومعة العزلة، تولدُ الأسئلة الصغيرة والكبيرة، ومع الوقت تغدو الأحلام والأمنيات والذّكريات، مجرد أسئلة معلّقة كجرسٍ في عنق الزمن.
أحبُّ علامات الاستفهام المتطايرة كفقاعات داخل رأسي، أقلِّبها بحثاً عن سبيلٍ لفكِّ طلاسمها، أراقصها كإناثٍ جميلات، وعصيّات عن الإجابات السّريعة، فأنعم بالسّكينة وأحظى بسلامٍ مع الرّوح.
هكذا تولد السّكينة من نقيضها، حيث تهدأ الهواجس والتوجّسات، ويحلُّ مكانها نوعٌ من المصالحةِ مع الذّات، وما أن أحسُّ بالإعياء جراء مراقصة الأسئلة، حتّى يتسلّل إليّ وسن النّوم، أراود ليلي أن يطول كي أنام طويلاً، فلا يوازي متعة النّوم سوى متعة الحبّ في فراش دافئ، وهناك في عالمِ النّوم تنطفئ الظّلال المتوثّبة، وتذهبُ هي الأخرى مثلي إلى مراقدها بسلام.
بيد أنّي وقبل أن أظفر بمتعة النّوم، أشرعُ كلّ ليلةٍ بمدِّ حبلٍ طويل أنشر عليه ثياب الذّاكرة، بعضها اهترأ بفعل الاجترار أو الإهمال، أو تقادم عليه الزّمن فتحوّل إلى ما يشبه الأسمال البالية، أقلّبه بين دفتين غير مرئيتين، فأقذف ما تقادم واختفى منه السّحر إلى ثقوب الذّاكرة السّوداء، أمّا البعض الآخر، فأعيد نسله كخيوطٍ أنسجُ منها حكاية جديدة، كما لو كنت قد عشتها بالفعل، فأغير قدري ولو في لحظةِ وهمٍ على ضفافٍ في عالم السّبات.
لكن ما يفجعني، هو التّذكر الفجائيّ لبعض الأسماء والحكايات المتآكلة، ألامسها فتتفتّت بين أصابعي وتتناثر كالرّمال، ثمّ ما تلبثُ أن تعود إلى ترابها بعد أن تراءت لي أشباحها، فارقدي بسلامٍ أيتها الذّاكرة الميّتة، فلا تجوز عليك سوى الرّحمة.
أمّا الذّاكرة الخضراء، فإنّها تظلّ تجيء، يمثّل الماضي حضوراً مكثفاً على تخوم الغياب الأبديّ، فالماضي ليس مجرّد حكايات مضت وانتهى أمرها، إنّ لها ظلالاً تتراءى على جدران القلب، أغمض عينيّ القلب لئلا أصطدم بإحداها، متحاشياً كلّ ما يبعث على الأرق.
أمضي النّهار التّالي، أرقب وقتي المتلولبُ كأفعى بين الجدران والأبواب والأصفاد، يداخلني نوع من القلق الهادئ، أعايشه بهدوء منتظراً ساعات المساء لألوذ أسفل صومعة العزلة، وهناك تعود الذّاكرة من جديد، أراقص الأسئلة ومع الوقت صرت أخشى التحوّل إلى سؤالٍ يستعصي على الإجابة.
يرنو إليّ الوقت، يتفحَّصني بعيونٍ شامتة، ويسألني بساديَّةٍ: ألّا تزال هنا؟، أحجمُ عن إجابته، متحاشياً إمكانية نشوب معركة، الآن وقتي لم يعدّ سؤالاً، بل بات إجابة سخيفة عن سؤالِ الزمن، أهمله، ولولا أن السّاعة في معصمي تساعدني في تنظيم يومي، لكسرتها في تحدّي الوقت.
أحاول أن أغفو، بعد أن نفذت طاقتي في اعتصار إجابات عصيّة على أسئلة عذراء، تهوى الرّقص حتّى ساعات الفجر، بعد قليل ستكون في عالم النّوم، العالم الأقل إنهاكاً، والأكثر ارتياحاً، بعد أن ضلَّلتكَ العزلة في غابة الأسئلة، وفي ترتيب ما صنعه النّهار بك، لتنقّي أذنيك من النّقيق والجدال على المسلّمات، وتفرّغ حمولة هائلة من المتاعب وزحام التّفاصيل الرّتيبة.
وحدها العزلة القصيرة لساعات ما قبل النّوم، من تعيد تذكيرك بذاتك، وبأنّك لا زلت إنساناً، وأسفل صومعتها تحاول أن تستجلي طرقات يملأها الضّباب.
قلّةٌ منّا نحن البشر، من يحدسون أن الكون طرقاتٌ وعوالم، وأن لكلّ واحد فينا طريقاً وعالماً قائماً بحدِّ ذاته، فقبل أن يرصد المرء الطّرقات والعوالم، يتعيّن عليه أن يرصد ذاته، ليرى الطّريق والعالم بداخله، بعد أن وقع عليه اختيار يانصيب الحياة، واستلَّته يد السّاحر من قبعة الكون، ليحظى باحتمالِ الحياة، بشقائها وأوجاعها وأفراحها الصّغيرة، ليشقّ طريقه ويبني عالمه المتخيّل.
وها أنا من قلبِ العزلة، أحاول أن أحدس إن كنت رابحاً على لعبة اليانصيب، أم أنّني كنت عبئاً على الحياة، وفي هذه اللّحظة بالذّات وأنا في طريقي نحو عالمي المشيّد بالأوهام، ستساورني الشّكوك في لعبة اليانصيب العشوائيّ، وإن كان ثمّة خلل فيَّ، أو في السّاحر، أو القبعة، سأسدل جفني متظاهراً بالاحتفاء بحسن طالعي في لعبة اليانصيب، وحامداً يد السّاحر التي أهدت إليّ حضوراً في عالم من الغياب.
شاعرٌ وروائيٌّ فلسطيني – أسير
التاريخ: الثلاثاء16-2-2021
رقم العدد :1033