عزَّة ألمّت بنا.. في دمشق ومتحفها الحربي

 

الملحق الثقافي:عبد الله عيسى :

أشبه بالولوجِ في كنفِ جنّةٍ وارفةٍ، كان الطريق من قرية ببيلا، حيث تخيّم بيوتنا الفلسطينيّة على أطرافها، إلى الشام، نقصد بها دمشق.
يتلوّى بيّ الباص الكبير، أبو زُقُم – أي أبو مقدّمة – كما كنّا نسمّيه.. يتلوى بيّ بين أشجار الجوز والحور والسرو الّتي تخفي وراءها بساتين خلّابة، من الدرّاق والمشمش والإجاص وسواهم ممّا أبدع الله في الغوطة تلك.
أنا النحيل الذاهب بغواياتِ الصبا كلّها، إلى حيث أشتهي آمناً مطمئنّاً، و”محمد بن أسماء” صاحبي المتين، القادر على درءِ السوءِ عنّا، بقبضتيه القويّتين.
لم يكن الطريق إلى دمشق بأجمل منها، ولم تكن القصيدة لتشدو إلا لتُخبرها:
هو الحبُّ الذي بي .. كيف أسألُ أينهُ؟!
فكـمْ تبيضُّ عينيّ .. حين أبصـرْ عينهُ
رائحةُ الشام الجميلة تسكن رئتي، وكأن العشق أبى إلا أن أعانقها بالوجدِ الذي غلبني.
تهبط إليك وادعة، منشغلة بصحوها وعطرها وتألقها وفتنتها. تهبط إليك، فتُلهيك عن فكرتك في اقتناص ذاتك، أيام الجُمع والآحاد. اقتناصِ الجلوس بجوار جسدٍ أنثويّ شارد على مقعدٍ في حديقة، أو ابتسامة تجمّل غدك، بالحنين إلى شيءٍ غامض فيك، تكتشف في كلِّ مرّة أسماء حسنى كثيرة له، لكنّه الحبّ نفسه، كما هو في وصف صاحبي الّذي يمشي إلى جواري بجسده الثقيل، فيُحدث صوتاً يدلُّ عليه.
مثل حوذيّ الأمكنة، أعبر الأزّقة والشوارع بين رصيفٍ وحديقة.. أعبرهما أنا وصاحبي، وعيوننا تجولُ في التفاصيل، مذهولة وفرحة ومنجذبة إلى جمالِ الاكتمال في مدينةٍ، تقودك دروبها إلى التيه الجميل، وتمطركَ عرائش ياسمينها، بعطرِ الحضارة الأصيل.
كثيراً ما كنّا، وبعد ساعاتٍ من رفقة الأمكنة، نعودُ متخمين بالعبق، وربما لا نعود، لأن هناك ما يُغرينا بالبقاءِ دوماً في حضرة الأنوثة وأسرارها الدمشقية.. أسرار حاراتها ودروبها ومقاهيها. تلك التي علّمتني الكتابة في الضجيج، والقراءة في الضجيج، والحبُّ والتنفّس في الضجيج، والتي جعلتني أمتهن الجلوس في مقاهي كلِّ المدن والعواصم التي زرتها، مثلما في كلِّ الزوايا المخصَّصة للغرام.. المقهى قلبُ المدينة إذاً، كما المرأة جسد الحياة فيها.
وصلنا دمشق، فكنّا أجمل مما نرى أنفسنا عليه في المرايا.. نرى في دمشق دمشق، فصارت وصرنا، أجمل المدن وأبدع الحكايا.
وقفنا أمام دور السينما، وتساءلنا أيّ الأفلام نحضر. كان صديقي يحب أفلام الكاوبوي أو الأفلام الهنديّة، وكنت أحبُّ أفلام سينما الكندي الهادفة، الّتي كان ينام في كثيرٍ منها، ثمّ يظلُّ طويلاً يسألني عن مغزى الفيلم أو معناه.
وكأنَّ الله منَّ علينا بها..
أنثى في خريف العشرينات، بيضاء بضّة، بعينين زرقاوين كعينيّ قطّة الحاجة أسماء أمُّ صاحبي، وذراعاها مفتوحتان، وقد نثرَ النمش على جلدها الملسوع بالشمس الدمشقيّة، رائحة ميّزتها بياسمينها.
اسمها “أنجيلا” ومعها صاحبتها وهي تكبرها قليلاً، وبجسدٍ ممتلئ قليلاً، وشعر قصير قليلاً، وعينين ضيِّقتين قليلاً..
كانتا تبحثان عن المتحف الحربي، فأصبحتُ وصاحبي دليليهما بالمجّان، وبلغةٍ إنكليزيّة ركيكة نتكلمها، وعربيّة فقيرة تتحدثان بها.
“خدمة سياحية”.. هذا ما قاله صديقي، وقلت: “لو شاءتا لدرنا بهما المتاحف الحربيّة العربيّة كلّها”، فقالت “أنجيلا”: “كثيرة”؟. وأردت أن أقول شيئاً لا أذكره الآن، لكنّي أشرت إلى طائراتٍ حربيّة ومعدّات، وضعت في حديقة المتحف، غنمها الجيش العربي السوريّ من حرب تشرين. اقتربت بها من كبسولةٍ للفضاء. كان فضائيّاً سوريّاً طار بها إلى السماء.
طفنا الأقسام بهما، ونحن نقصّ عليهما حكايا الانتصارات الكبرى، وتكاد قامتانا تصعد إلى علٍّ من عزَّة ألمّت بنا. .
كثيراً ما تداخل سردنا، بالفتوحات ومعارك حطين وذي قار والقادسية وبدر. لكنّنا، شعرنا بالهزيمة إذ سألت أنجيلا: “من أين أنت خبيبي”.
سألتْ، وهبطت عيناها الزرقاوان بدموعٍ بيضاء كبيرة، إذ رددتُ عليها: “أنا لاجئ يا أنجيلا، ولا أزال لاجئاً.. حتّى مخيمات لجوئنا الّتي اعتقدنا أنّها سوف تتحوّل إلى متاحف، بعد أن نعود إلى فلسطين، دمّرتها الحرب على سورية”.
 شاعر وأكاديمي فلسطيني

التاريخ: الثلاثاء16-2-2021

رقم العدد :1033

 

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى