الملحق الثقافي:سامي سماحة :
شاء القدر أن تتركَ الوطن، وتسافر إلى كندا حيث يعمل زوجها، وفي كندا شاشة جاذبة، يصعب على الوافد مقاومة معروضاتها، لذلك لا تحتاج إلى وقت كثير حتى تتغير مشاريعك وخططك، ويجتاحك شعورٌ بأنَّك باقٍ هناك، ولن تعود إلى الوطن كما كنت تخطط قبل سفرك.
تركت لبنان على أمل أن تعود بعد حلول السلم الأهلي، فقد أتعبها السفر. قد تكون الهجرة لدى الكثيرين، حدثاً مرتبطاً بزمن يتعاملون معه بنظرة فردية بحتة، أما هي، فقد كانت بالنسبة إليها، سفراً يحفرُ جراحاً في الروح، قبل أن يحفر خنادق في الجسد.
لذلك، كان لكل الأمكنة التي زارتها مرغمة، مجموعة كبيرة من الذكريات، تعيش داخلها كمحطات. بعضها أضاء لها الطريق، وبعضها حفر في روحها خنادق الوجع.
أحياناً يعطيك القدر ما تستحقه، وقد أعطى الرفيقة فاتن ذلك. أعطاها نعمة السفر إلى خارج الوطن، كي تخضع للامتحان الأخير، في رحلة العبور إلى الوطن الذي تشتهيه.
كانت توّاقة للاستقرار. السفر وحده أعطاها إياه، ومنحها فرصة المفاضلة بين جحيم الوطن وجنائن الغربة. غادرت على أمل أن تعود إلى جنّاته، بعد مدة من الزمن.
لكن، من أين سيأتي الأمان، في بلدٍ استشعرته، يشبه أي شيء ولا يشبه الوطن. بدأت رحلة التأقلم مع البلد الجديد. بدأت عملية الانخراط في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة، وبدأ يراودها شعور أنها مغتربة، ترى الوطن من بعيد، لكن الفكرة التي كانت تزعجها ولا تستطيع أن تهضمها، فكرة أن تكون مواطنة لبنانية – سورية، وأطفالها مواطنون كنديون.
تحاول أن تُبعد الفكرة، أن تنساها، فتعيش منقسمة الى قسمين. قسمٌ يراقبُ تفاصيل ما حدث في بلده، وآخر لا يريد أن يكون إلا مواطناً سورياً.
لكن، أن تكون مواطنة سورية، هذا يعني أن تدفع ضريبة عالية، فهل بإمكانها وزوجها الرفيق زياد، المؤمن بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية، دفع ضريبة العودة، وأيُّهما ستنتصر، ضريبة العودة أم ضريبة البقاء؟.
بدأ يزداد رجفان عينها المخصصة للوطن، فهي لم تلمح حتى بصيص أمل بالعودة إلى السلم الأهلي، ولا الدخول إلى الوطن الذي تشتهيه.
وفي ليلة لم تكن بالحسبان، صعد الإثم الكنعاني إلى دماغها، فأحدث ضجة جنون غير اعتيادية، وعندما تزورها نوبة الجنون تلك، تفقع كل الفيوزات ويبقى فيوز واحد، هو فيوز العودة.
كيف ستبقى في كندا وقد قررت تسمية طفلتها جنين؟!. كيف ستبقى في كندا وكتابها الأول “بين انتظارين”؟!.
لا، لن تبقى في كندا، فقد اشتاقت لسنديانات وادي الجماجم، وإلى سنابل سهل البقاع. اشتاقت إلى العاصي، وقررت أن تشبهه وتكون عاصية مثله.
قررت أن تعود، وذات صباح نظرت إلى زياد قائلة: “ما رأيك بالعودة إلى الوطن”؟.
لم يتجاوب ولم يمانع، كأنه أعطى لنفسه ولها فرصة، كي يأتي القرار بعقلٍ هادئ لا غاضب، وبعد عدة محادثات بينهما، لأن القرار بشأن العودة، يساوي قيمة وجودهما في الحياة.
قرَّرا العودة. شاشات التلفاز تتحدث عن احتراق بيروت، عن القذائف والصواريخ، والمدافع، والرصاص، وصور الشهداء التي على الأرض، ولكن الصورة التي أزعجتها وجعلتها ترتجف من الخوف، هي صورة عائلة خرجت من بيتها بثياب النوم.
ارتجفت لكنها لم تخفْ، فقرار عودتها نهائي.. عادت، وعندما أصبحت الطائرة فوق صنين، نظرت فشاهدت الدخان الأسود يحجبُ أضواء مدينة بيروت، ونظرت إلى قبرص فرأتها تنير البحر السوري.
التفتت إلى زوجها وقالت: “أشعر بالراحة، لأنني ربطت مصيري بمصير أهلنا، وأهل بلدنا، وسيصيبنا ما يصيبهم. ربطت مصيري بمصير بلادي وهذا يكفيني”.
صادقت الكتاب منذ كانت صغيرة فكان لها خير صديق. صادقت رائحة التراب، تراب الجبل، تراب السهل، تراب المدينة، وكم كانت تفتخر عندما يقول لها أحدهم: عطرك من رائحة تراب بلادنا.
قررت أن يكون لها زاروبٌ ثقافي، نهضوي خاص، فهي لا تحب التقليد، وهي مشاكسة، وخاصة مع من تعرفهم جيداً.
عندما تشاكسك، يعني أنها تطلب منك أن تنزف أفكاراً كي تستطيع الوصول معها إلى برِّ الإقناع. ليس مهماً إن ارتفعت الأصوات، أو توتّرت الأعصاب، وهنا تحضرني خبرية صغيرة:
“اتّفقنا على لقاء، مع الرفيق “رضوان رزق” في منزلهم، وفي اللقاء ارتفع منسوب توتر الأعصاب، فبدر من الرفيق رضوان، ما يوحي أنه يتدخل مُصلحاً بيننا، فنظرت نحوه قائلة: “شو بدك هيدي قصة عابرة، عد إلى موضوع النقاش”.
قررتْ ألا تتعرف على بدايات الزواريب الثقافية المزيفة، ليس لأنها تخاف منها، بل لأنها لا تريد أن تدخل بالتجربة.
صرعت الزاروب الثقافي الذي اختاره كل الذين عرفتهم، وكانوا من أصحاب النزعة الفردية. صرعت فكرة الانبهار بالمظاهر، وفكرة العظمة التي قد تكتسبها يوماً ما.
انتصر الإثم الكنعاني. انتصر الوطن فيها على النزعة الفردية وعادت إلى الوطن.
من هنا أتى تفرّدها، من اختيارها زاروب الإثم الكنعاني، المُطِل على قوَّةٍ تستمدها من تاريخٍ طويل، يعود إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.
كاتب وشاعر لبناني
التاريخ: الثلاثاء16-2-2021
رقم العدد :1033