الثورة أون لاين – عبد الحميد غانم:
تضطلع المواطنة بدور هام في تحصين منظومة القيم في الوطن، وهي تتكوَّن من منظومة القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية المشتركة بين مواطنين يعيشون على أرضٍ واحدة، وفي محيط جغرافي واحد تتمازج فيه مشاربُ الناس وأهواؤهم، وتتلاقح فيه طقوسُهم وتقاليدُهم وأعرافُهم، وتتوحّد رؤاهم في تساوقٍ تاريخيٍّ تحكمُه قواسم معرفية ذاتُ أبعادٍ فكرية متشابكةٍ فيما بينها، تتشكَّلُ في نسيجها حضارةُ شعبٍ وهويةُ انتماءِ أمةٍ تبحث عن موقع لها في محيطها الذي تتنازعهُ الصّراعات السياسيّة، وتتجاذَبُه التيارات الفكرية المتنوعة والمتفاعلة إيجابيا لإخراج حضارة إنسانية متميزة..
وفي ميزان تشكُّل الحضارات يبقى البناءُ الفكري المعرفي أُساس أي حضارة وقُطْبَ رَحاها، وبالتالي فإنَّ أيَّ خللٍ يصيبُ منظومة البناء الفكريّ المعرفي لأي شعب من الشعوب أو لأية أمة من الأمم تكون له ارتداداتُه السلبية والمضطربة على مختلف جوانب الحياة، إذ إنّ في منظومة المعارف والعلوم التي تحكم سير حضارات الشعوب والأمم ما يحافظ على بقاءِ تلك الحضارات، وعلى استمرار توثُّبها وانتقالها من حالٍ إلى حالٍ، في حركةٍ متناغمةٍ مع حركة التاريخ، متوائمةٍ مع أحداثهِ ووقائعه، منسجمةٍ مع مستجدّاتهِ ومعطياته.
وإذا كان الوطنُ يشكل الحيّزَ الجغرافي الذي تعيش فيه مجموعات بشرية ترتبط فيما بينها بأعرافٍ مُتَوارثَةٍ وبقيمٍ إنسانية وحضارية واجتماعية وأخلاقية، فإنَّ الثقافة هي المخزونُ المعرفي لتلك الأعراف والقيم، والقلبُ الذي يضخُّ الدّمَ في شرايين الوطن، فيبعث فيها الحياة، والروحُ التي تسكن في كلِّ ذرةٍ من ترابه، فتحرّك فيه مكامنَ الإبداع، وتشكل في المحصّلة الهويةُ الحضارية والأخلاقية والإنسانية للمجتمعات البشرية، وبالتالي فإن الوطن من دون ثقافةٍ وطنية ــ يستهدي بها ويسترشد، ويستمدُّ منها نُسْغَ الحياة ــ يَفْقِدُ بوصِلَتَه، ويصبح أشبهَ بالإنسان الذي تخرجُ منه الرّوح، فيغدو جُثّةً هامدةً لا حياة فيها، فالثقافة الوطنية تحرّك الراكد في الوطن، وتبعثُ نبْضَ الحياة فيه.
ومن ثقافة المواطنة تنطلق حركةُ التنوير الفكري الحضاري، متواكبةً مع مستجدات العصر، ملبيةً الاحتياجات الضرورية التي تقتضيها كلُّ مرحلة من المراحل التي تمر بها. وما من شك في أن أيّ فِعْلٍ ثقافي يستمدُّ قيمتَه من مدى تأثيره في الوسط الاجتماعي، ومقياسُ القيمة الثقافية لأي فعلٍ ثقافي هو المتلقي للحالة الثقافية أو للفعل الثقافي؛ إذ بمقدار استجابة المتلقي وتفاعله مع الحركة الثقافية تتحدد قيمة المادة الثقافية وأهميَّتُها، كما تتحدّد قيمة الفعل الثقافي وأهميَّتُه، ولا قيمةَ لثقافةٍ ما لم تقترن بفعل ثقافي يستنهض الهِمم، ويحرِّك الراكد من موروث القيم، بما يولِّدُ انتفاضةً ثقافية قابلة للحياة، وقادرة على مواكبة المستجدات ومواجهة التحديات وتذليل ما يعترضها من عقبات قد تحول دون استمرارها ومواصلة نشاطها الفاعل والمؤثِّر في محيطها المكاني أولاً، وفي حيِّزِها الزّماني ثانياً. فلم تعد الثقافة فيضٌ ونبْضٌ.. فيضُ عطاء لا يعدِلُه عطاء، ونبْضُ وفاءٍ لا يجاريه وفاء، وذروة الفيض والنَّبْضِ ما هزّ المشاعر، وجادت به القرائح، ونطقَتْ به ريشةُ فنّان، وارتسم على صحيفة مُبْدِعٍ كرّس إبداعَه للارتقاءِ بالوطن. والوطن الذي لا يملك ثقافةً هو وطن آيلٌ إلى سُقُوطٍ أو ربما إلى سكونٍ تنعدم فيه حركة الحياة التي تقتضي الضرورة أن تكون ملازمةً لنهوض أيِّ شعبٍ أو لانطلاقةِ أيّةِ أُمّةٍ..، إذ بانعدام حركة الحياة في منظومة قيم الأمة يُفْقِدُها قدرَتَها على المواجهة، وتغدو ضعيفة عاجزة عن رَدِّ الأذى عن أبنائِها، فتنمو طفيليات التسلُّق غير المشروع، وتتسلّل طحالِبُ الماء الآسن إلى مفاصل الحياة اليومية للمجتمع، فتسقط قيمُه الوطنية، وتغيبُ حركة التنوير فيه، فيؤدي ذلك إلى تعثُّرٍ حضاري ومراوحة في المكان، وربما إلى سُبات عميقٍ قد يستغرقُ مدةً طويلةً حتى يُقَيَّضَ للأمة أن تنهض، كما حصل لأوروبا في القرون الوسطى، وللأمة العربية وللمنطقة إبان الاحتلال العثماني الذي استمر أكثر من أربعة قرون من الزمن.
فمَنظومة القيم الوطنية تعد المكوِّن الأساس لثقافة المواطنة وعلى إيقاعاتها يُكْتب للأمة لها البقاء واستمرار التجدد والانبعاث، والقدرة على مواجهة إخطار الليبرالية الجديدة التي تريد تذويب تلك القيم وطمس الهوية الوطنية، وإدخال المجتمعات في حالة من التفكك والانحلال القيمي والسقوط الأخلاقي.
فالأمة التي تحافظ على ثقافة المواطنة تستطيع أن تصون نفسها من مخاطر الليبرالية الجديدة وتحديات العولمة الغربية التي تريد فرض طبيعة مجتمعها وأخلاقياته وقيمه على بقية المجتمعات الأخرى وطمس هوياتها.