ثورة أون لاين -بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم:
لا تخلو قضية التجسس الأميركي على الأوروبيين قادة ومواطنين من مفارقات مريرة, وفيها من شرّ البلية ما «يوجع» من الضحك، حيث تميط اللثام عن العقل السياسي الأميركي,
الذي يتعاطى مع العالم بذهنية دونية, تقتضي في الحدّ الأدنى عدم الثقة بأقرب حلفائه، والتجسس ضرورة عليهم، وعلى العملاء والخصوم والأعداء والأصدقاء، وكل ما في الكرة الأرضية!.
ستكثر التحليلات والاستنتاجات، لكنها قد لا تصل إلى حدود التخيّل بأن تتحمل الإدارة الأميركية تبعات هذه الفضيحة، وإن كنا نرى فيها بداية نفق قد يقود في نهاية المطاف إلى التضحية بما يليق بأميركا أن تضحِّي به!! وحتى لو اقتضى ذلك أن تكون أبعد من حدود الاستخبارات، لتصل إلى السياسيين بتراتبية حضورهم، ولا تستبعد رأس الهرم ذاته!.
أميركا القوة العظمى المهيمنة على العالم لعقود، والحامية لشعارات الديمقراطية والإنسانية وراعية حقوق الإنسان فرادى وجماعات.. شعوباً ودولاً، تتجسس على الحلفاء، كما تفعل مع الخصوم، وتمارسه على الأصدقاء، كما هو على الأعداء، ولا تستثني نفسها من عملية التجسس حتى على مواطنيها تحت شعارات زائفة وبالية، تحاول عبرها أن ترقّع ما يمكن ترقيعه بعد أن تلاشت غشاوة مصطنعة ومواربة أرادت أن توهم العالم بهذه الحضارة المتوحشة.
من المنطقي ألا يُفاجأ أحد بما فعلته، وما قد تفعله قوة لم تترك شكلاً من أشكال العدوان على البشرية إلا ومارسته، ولم تستثنِ أسلوباً من أساليب الاستباحة للشعوب والعالم إلا وأقدمت عليه، ولم تتردد في سلوك أقذر الطرق والوسائل للوصول إلى أهدافها، بما في ذلك من تجنٍّ على الإنسانية وقيمها وأخلاقها، وصولاً إلى الكذب والنفاق والخداع والتضليل والإيقاع بأقرب حلفائها.. إن اقتضت مصلحتها ذلك.
لكن على المقلب الآخر يبدو مفاجئاً هذا الردّ الباهت أوروبياً، وهذا الاحتجاج الخجول من قادة أوروبيين، ثبت قيام أميركا بالتجسس على مكالماتهم الشخصية، وهذا البرود في ردة الفعل كان يقتضي في الحد الأدنى الاستنفار على أعلى المستويات.
القوة بلا أخلاق تتحوّل إلى توحُّش، والحضارة دون ضوابط إنسانية تتحوّل إلى استباحة، والقوة الأميركية لا تفتقد الأخلاق، ولا تفتقر إلى الإنسانية فحسب، بل هي خليط غير مسبوق من التعجرف ومن الاستباحة التي تصبح أي علاقة معها عبارة عن قرينة اشتباه وليست فقط دليل اتهام، والصداقة معها خطر يتجاوز الأخطار الناتجة عن عداوتها، والتحالف معها مكلّف أكثر من خصومتها، فهل وصلت الرسالة السورية قبل سنوات على لسان السيد الرئيس بشار الأسد عندما وجدت أن خصومة أميركا أقل خسارة من صداقتها.
القضية ليست في مصالح آنية كاذبة وخادعة، ولا في صفقات سياسية واستخباراتية، أو في صور تذكارية ورقصات مع الرؤساء الأميركيين وشرب نخبهم، ولا هي في تقاطع المواقف ونسق التبعية في السياسة، فهذه أميركا التي لا تعرف إلا ما يتفق مع أهوائها وأوامرها الواجبة التنفيذ دون اعتراض أو نقاش.
لا أمل في موقف أوروبي ينتفض لهذه الإهانة ولا لتلك الصفعة المدوية، ولا أمل مرتجى يمكن عقده على أدوات وتابعين اعتادوا على فصول من الإهانة، وتعودت وجوههم على صفعات الأميركي في السياسة وفي الدبلوماسية وفي المصالح، وفي الأخلاق وفي الشعارات، لكنها ربما كانت رسالة جديدة تؤكد حاجة البشرية إلى قوى عالمية أكثر مقدرة على التعاطي بما يتفق والنصوص الإنسانية، وأكثر مرونة في فهم متطلبات الحاجة للأخلاق التي استبعدتها عقلية التوحش والأطماع من قاموس السياسة الأميركية.
الفضيحة الأميركية لو حصلت في مكان آخر لكنّا ننتظر اعتذاراً، أو توضيحاً أو تحمّلاً للمسؤولية تدفع بالمسؤول عنها لتقديم استقالته كما درجت عليه أعراف خَلَت، لكن ذلك كله كان قبل أن تصل القوة الأميركية إلى مرحلة التوحش وإلى مستوى التبرؤ من أي لمسة أخلاقية في تصرفاتها.
لذلك لا أحد يراهن على صحوة ضمير أميركي ولا على مسحة أخلاق تنزل عليه من السماء، لكننا لانستبعد تفاعلات في الداخل الأميركي، وفي قلب المؤسسة السياسية الأميركية لتكون التسوية في النهاية على حساب الإدارة الحالية وتحديداً الرئيس أوباما، وليس من المستغرب في لحظة ما أن ترتفع أصوات تُحمّله شخصياً مسؤولية أخلاقية وسياسية ودبلوماسية في اتجاهين، الأول عن سبب التسريب والثاني في أن يكون الضحية الأميركية على مذبح التكفير المؤقت عن الفضيحة.
فهل بدأت النهاية السياسية لإدارة الرئيس أوباما قبل أوانها، وهل التنبؤات حول ذلك ستكون حقيقة، حين تُحمّله المؤسسة الأميركية المهيمنة على السياسة والقرار والأشخاص تبعات كل ما جرى، إن لم يكن كذلك هل لأحد في العالم أن يجيبنا لماذا تم تسريبها في هذا التوقيت، وليس قبل ذلك، وهي معمول بها منذ سنوات، هل لأحد أن يقنعنا بأن الحلفاء الأوروبيين لا يعرفون بقصة التجسس، وليس لديهم خبر وقد صدمتهم المفاجأة ؟!
بغضّ النظر عن كل ما أُثير وما سيُثار، فالمسألة ليست خبطة صحفية ولا هي تراجيديا سياسية، بل محاولة تعليب أميركية وتوليفة مسرحية هزلية من النوع المأساوي المبالغ في سوداويته، لإعادة تبييض الصفحة الأميركية التي لطّختها ممارسات وسلوكية أميركية فاقت كل حدّ، وقد تكون نهاية فصولها كبش فداء بمرتبة رئيس.
a.ka667@yahoo.com