لم يكن حلماً ولا خيالاً خارج المنطق ما خطط وعمل له الغرب في مختبرات استلاب العقول والعمل على هندستها وفق ما يريد، وليبدو الأمر كأنه حدث رغبة وتوق ممن يقع فيه وليس استلاباً يضعه على سكة اللاعودة والانغماس في أتون المستنقع الرقمي الذي لا مفر من ملوثاته إلا لمن كان تحصينه الثقافي والمعرفي راسخاً ممتداً في جذور أصالته..
لم يحدث هذا الاختراق بين ليلة وضحاها بل بدأ في الولايات المتحدة الأميركية ومن خلال مختبرات وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي عملت على المزاوجة بين علم النفس والفيزيولوجيا للوصول إلى تحديد الخلايا الدماغية ومعرفة نقطة ارتكاز كل نبضة..
كانت الغاية في البدايات التي تم تجريبها على السجناء زرع نبضات كهربائية في الدماغ تتيح أن يتحكم بها من يشغلها من الخارج ..كما يعمل جهاز ضبط القنوات التلفزيونية ..تم تجريب الأمر وأعطى النتائج التي عملوا من أجلها..
لكن كيف يمكن أن يتم زرع ملايين الخلايا في أدمغة المستهدفين..دون ذلك أهوال وأموال وأساليب تتكشف..
فكان لابد من هندسة جديدة تتيح العمل بطرق أخرى أقل كلفة وأكثر جاذبية وليبدو المستهدف كأنه يعمل وفق إرادته..بل يسعى إلى هذا..
وكان سكينر عالم النفس الأميركي علامة فارقة في هذا التحول في كتابه الخطر جداً الذي توقفنا وأشرنا إليه كثيراً ..تكنولوجيا السلوك الإنساني..وفيه يطرح أساليب تدجين العقول من خلال التربية والثقافة والمجتمع والإعلام الذي بدأ سطوته من خلال ما سموه مدافع هوليود والأفلام الأميركية التي رسمت خطوات الغزو الثقافي الأميركي للعالم..
في القفزة التالية كان الإعلام الفضائي واستباحة كل بيت متى ما ضغطت على جهاز التحكم والانتقال من محطة إلى أخرى..ولكن ذلك لم يكن كافياً ولاسيما في استلاب عقول الشباب والمراهقين إذ لا يمكنهم أن يقوموا بذلك دون معرفة الأهل ومن هم موجودون معهم..
لذا لابد من أدوات جديدة ينغمس فيها المستلب وحده دون أن يشاركه أو يراه حتى من يجلس بالقرب منه، فكان الفضاء الأزرق المسمى مواقع التواصل الاجتماعي من الفيسبوك إلى تويتر ويوتيوب، وما يمكن أن نعدده من مشتقات تقنية لا ندري إلى أين تصل..
ولا تكاد تجد من بلغ العاشرة من عمره إلا وقد دخل هذا العالم الافتراضي..وربما أكثرها جاذبية وإغراء كما في هذه المنطقة هو الفيسبوك الذي كاد يصبح هوية بصرية واجتماعية بما يتيحه من تدفق ونشر وسرعة في الأداء وبالوقت نفسه مجاني إلا من كلفة بسيطة يدفعها المستخدم ثمناً للإنترنت، وقد يكون التواصل مجانياً ومتاحاً كما في بعض الدول التي وضعت شبكات في شوارعها أتاحت للجميع أن يكونوا في هذا المستنقع الأزرق..
ولكن هل سألنا أنفسنا:ما الثمن الذي ندفعه عن طيب خاطر ..وبصيغة أخرى..لماذا المجانية التي تبدو وكأنها منة من المشغل..وليس من طبعه أن يكون كريماً..؟.
طبعا لا نشك أن الجميع يعرفون أننا نحن الثمن من مبدأ أن البضاعة التي تقدم لك مجاناً أعلم أنك أنت الثمن ..فما من شيء في هذا العالم المتوحش مجاني..
واليوم يمكن لأي متصفح للفيسبوك أن يعرف بل يجب أن يعرف أنه يدفع الثمن منذ اللحظة الأولى لدخوله صفحته إذ يطالعه السؤال:بم تفكر؟.
هل تساءلنا لماذا هذا السؤال ..وهل هم حقاً معنيون بنا بشغف إنساني ..لماذا ينفذون مقولة أحد الفلاسفة القدماء:تكلم لأراك أليس وراء الأمر منجم من مال وذهب ومعطيات نقدمها لهم طوع الخاطر..؟ الأمر أبعد من ذلك بكثير.
معاً على الطريق- بقلم أمين التحرير- ديب علي حسن