الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
إنّهُ نيسان، ربيع متنكّر بملامحِ شتاءٍ يأبى أن ينفض عنه الصّقيع الذي التصق بأبوابنا ونوافذنا وشرفاتنا، واستوطن النّبض والأنفاس.
لم يكن الثّلج كثيفاً هذا العام، ولكنّ القلوب – كلّ القلوب- قد سكنها رجل الثّلج بقسوته، لا بجماله، والرّيح تصفر في كلِّ موقدٍ، فليس ثمّة حطب أو وقود ليذيب الجليد.
كلّ الغيوم تمطر دون توقّف، والقطرات مشبعة بكلّ ألوان الطّيف. مطرٌ أسودُ، بعضه كان فيه من السّواد ما زرع حقول أشواكٍ في النّفوس والحناجر، وترك جراحاته المثخنة حيثما هطل، وبعضه الآخر تعكس قطراته السّوداء الكدر والأسى، اللذين يسقط وابلهما من كلِّ حدبٍ وصوب.
مطرٌ أحمر تزهر معه شقائق النّعمان من حولنا، لتغدو كلّ زهرة منها تذكاراً لوجوهِ من رحلوا، وقد وهبوا الأرض أعزّ ما يملكون.
مطرٌ أخضرُ يتجلّى في ضحكاتِ الأطفال الّتي تعشوشب لها القلوب الظّمأى لضحكةٍ صافيةٍ سعيدة.
ألوانٌ شتّى للمطر أراها في كلّ الوجوه، وترسم ملامح الأماكن المتعبة بما فيها موقف الحافلة الذي سئم الانتظار بمن يحتشدون فيه. أستقلّ الحافلة بعد انتظارٍ مضنٍ، فيطالعني وجهٌ متعبٌ لسيّدة ستّينيّة رسم الدّهر على جبينها بصمات عشرة أعوام إضافيّة، رغم رقيّ شكلها وهندامها. أجلس في المقعد بجانبها وأبادرها بابتسامة، فأدرك أنّها تنتظرها كجواز سفر تفتح عبره بوّابة بوحها دون استئذان، ولا نكاد نبدأ حديثاً أو اثنين، حتى تبدأ سُحبها بالانهمار: «كنّا نحلم بالتّقاعد أنا وزوجي لنعيش ما بقي من العمر في بحبوحة، ونرفّه أنفسنا بالسّفر أو الرّحلات فيما اعتقدنا أنّنا ندّخره ليومنا الأسود، ولكن للأسف كان زوجي على موعدٍ مع أمراضٍ مزمنة تزامنت مع تقاعدنا، وكان أحد أسبابها أنّ الحرب سرقت بيتنا في القرية- رصيد عمر طويل دفعنا عبره أقساطاً مضنية، ووضعنا فيه جنى تلك السّنين، ليكون أثاثه وتصميمه كما نحلم، ولكن لم يعد له أثر.»
مع هذا السّيل الجارف من الوجع، لم أملك ما أقوله سوى: «جميعنا تضرّرنا من الحرب، عسى الفرج قريب».
ألتفت إلى الجهة المقابلة، يثير فضولي حديث بين سيّدتَين في المقعد الموازي لمقعدنا. تقول إحداهما: «من يصدّق أنّني أصبحت أطهو كأساً يتيماً من الأرزّ، أوزّعه بالتّساوي عليّ وعلى زوجي وطفلي، وأكاد أعدّ الحبّات في كلّ صحن».
تقول السّيّدة الأخرى: «ماذا أقول عن نفسي، وقد أصبحت أتأمّل ورقة البقدونس المائلة إلى الاصفرار وأقنع نفسي أنّه لا ضير من تقطيعها فهي ليست صفراء تماماً».
هَطل الأوجاع هنا وهناك يحفّز كلّ حواسّي. يتناهى إلى سمعي صوت شابّ يحدّث صديقه عن عمرٍ ابتلعته سنواتٌ قضاها في خدمة الاحتياط، ليجد حياته مع من يحبّ بلا مستقبل.
يكاد رأسي ينفجر من وابلِ القصص الّتي تنقر زجاج الصّمت بثقلٍ أليم على مسامعي. وعند موقفي المحدّد، أنزل من الحافلة ليطالعني وجه امرأة تتسوّل كبسولات دواء من إحدى الصّيدليّات، وأخرى تغتصب من الحياة ابتسامة تشي بما في قلبها من مرارةٍ، عبر أحاديثٍ ساخرة فيها من المُبكي أكثر ممّا هو مضحك. وفي كلِّ ما أطالعه أشعر أنّني أتسوّل فرحةً أو نظرة أمل في العيون، ودالية الحزن تتعرّش شغاف روحي بعنبها المرّ الذي قطفت منه مع كلّ حديث عابر حبّةً كالحنظل. فلطالما أوجعني السّؤال: «ترى من منّا جراحه مثخنة أكثر، نحن، أم الوطن، أم ياسمينه؟».. ليطالعني الجواب على شفاه ياسمينة جريحةٍ تسكنني: «هو الوطن ينزف ياسمينهُ في أرواحنا، وهو يثق بصبرنا الجميل.
التاريخ: الثلاثاء6-4-2021
رقم العدد :1040