الثورة – جهاد اصطيف:

في شوارع حلب القديمة، حيث كانت واجهات محال الصاغة تتلألأ ببريق الذهب، وتستقطب أنظار المقبلين على الزواج، بات المشهد اليوم مختلفاً تماماً، اللمعان لا يزال في واجهات العرض، لكنّه أصبح بريقاً بعيد المنال لمعظم الناس، بعد أن تجاوز سعر الغرام الواحد من عيار 21 حدود المليون وأربعمئة ألف ليرة سورية، في قفزة غير مسبوقة، جعلت شراء الذهب حلماً صعب المنال، حتى لمن يدخر شهوراً طويلة.
مرآة أزمة المعيشة
تشهد الأسواق في حلب حالة غير مسبوقة من الارتباك والترقب، مع تقلبات حادة في أسعار الصرف، وانعكاسها المباشر على أسعار الذهب، هذا الارتفاع المستمر لم يعد شأناً اقتصادياً فحسب، بل امتد أثره إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية، ولاسيما في قضية الزواج التي باتت مرتبطة بشكل وثيق بتقلبات السوق.
يؤكد عدد من الصاغة أن حركة البيع ضعيفة، وأن معظم الزبائن يكتفون بالنظر أو السؤال عن الأسعار قبل أن يغادروا بخيبة واضحة.
إذ يبين أحدهم أن المواطنين لم يعودوا يشترون الذهب للزينة أم المهر، بل بالكاد تشتري غراماً واحداً للضرورة أو للذكرى، الغلاء أكل الفرح من وجوه الجميع.
وفي الوقت الذي كانت فيه العائلات قبل سنوات تعد المهر الذهبي جزءاً من تقاليد الفرح، أصبح اليوم سبباً لتأجيل الفرح أو إلغائه.
فكثير من الشبان يجدون أنفسهم بين مطرقة الواقع الاقتصادي وسندان العادات الاجتماعية التي لم تتغير رغم كلّ التحولات.
يقول هاشم محمد ” 33 عاماً “، وهو موظف في إحدى الشركات الخاصة، لصحيفة الثورة: راتبي لا يتجاوز المليون ونصف المليون ليرة سورية في الشهر، ومع ذلك أحلم بالزواج والاستقرار، لكن عندما طلب أهل الفتاة مهراً ذهبياً بوزن 75 غراماً، أي نحو مئة مليون ليرة، أدركت أن الأمر مستحيل.
حاولت إقناعهم بأن الظروف صعبة، لكنّهم رفضوا وأكدوا أن هذا من حقّ الفتاة، فقررت أن أصرف النظر عن الموضوع.
ويضيف بأسى: التمسك بالعادات القديمة أصبح ظلماً للشباب، الزواج تحوّل إلى مشروع يفوق قدراتنا، والمجتمع لم يتأقلم بعد مع الواقع الجديد.
أصوات نسائية تنادي بالتغيير

على الجانب الآخر، تظهر أصوات نسائية، تدعو إلى كسر الصورة النمطية المرتبطة بالمهر الذهبي.
تشير الشابة ” آمال.ا ” في حديثها لصحيفة الثورة، إلى أنه من غير المنطقي أن نطالب الشباب بذهب غالي الثمن، ونحن نعيش جميعاً نفس الأزمة.
الزواج ليس تجارة، ولا يجب أن يكون المهر سبباً في تعقيد الأمور، علينا أن نغير هذه العقلية التي باتت عبئاً على الطرفين.
وفي حي الأشرفية، تتحدث ” ازدهار.م ” أم لثلاث فتيات، بنبرة تجمع بين التمسك بالعادات ومراعاة الواقع : أيام زمان كنا نطلب ذهباً كثيراً للعروس، لكن اليوم لا نستطيع، نكتفي بخاتم وحلق وطوق بسيط، لأن الأهم هو “سترة” البنت وليس كمية الذهب، ومع ذلك لا أرى أنه يمكن الاستغناء عن الذهب تماماً، لأنه رمز اجتماعي له قيمته.
وفي ظلّ ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتراجع القدرة الشرائية إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات، تبدو حلب نموذجاً مصغراً لما تعانيه المدن السورية الأخرى.
فرواتب الموظفين-التي بالكاد تكفي لأيام معدودة- لا يمكن أن توازي تكلفة مهر أو تجهيز بيت، وتشير تقارير اقتصادية محلية إلى أن تكلفة الزواج في حلب اليوم، قد تتجاوز 300 مليون ليرة سورية، وهو رقم يفوق أحلام معظم الشباب العاملين برواتب ثابتة.
هذا الواقع أدّى إلى تراجع ملحوظ في عدد الخطوبات والزيجات، إذ تشير مصادر أهلية إلى أن كثيراً من العائلات باتت تؤجل زواج أبنائها بانتظار “انفراج” قد لا يأتي قريباً.
أزمة قيم اجتماعية
الأخصائي الاجتماعي حيدر السلامة، يرى أن الارتفاع الكبير في أسعار الذهب لم يعد مجرد ظاهرة اقتصادية، بل أزمة قيم اجتماعية، تعكس هشاشة منظومة الزواج التقليدية.
يقول في حديثه لصحيفة ” الثورة”: علينا إعادة تعريف مفهوم المهر، فهو في الأصل رمز معنوي يعبّرعن التقدير، لا صفقة مادية تحددها الأرقام، الزواج ليس تجارة، والذهب مهما ارتفع ثمنه،لا يعوض المودة والاحترام بين الطرفين.
ويرى السلامة أن الحل يبدأ من تغيير الثقافة المجتمعية، وتبنّي قيم أكثر واقعية، تضع الاستقرار الأسري فوق المظاهر الشكلية.
بين البريق والمبدأ
رغم الأزمة القاسية، لا تزال كثير من الأسر، تعتبر الذهب جزءاً لا يتجزأ من تقاليد الزواج، حتى وإن بات عبئاً ثقيلاً.
لكن في المقابل، يبرز جيل شاب جديد، يحاول التحرر من الإرث الاجتماعي القديم، مؤمناً بأن الزواج ليس بريق الذهب، بل تفاهم وحبّ واستقرار.
وفي الأحياء الشعبية كما في أحياء المدينة الحديثة، تراجعت حفلات الخطوبة التي كانت ترصع بالذهب، وحلت محلها خواتم رمزية وهدايا بسيطة، في إشارة إلى وعي جديد يتشكل بصمت داخل المجتمع.
الذهب في حلب لم يعد مجرد حلي للزينة، بل أصبح مرآة تعكس واقعاً اجتماعياً واقتصادياً مأزوماً.
ومع كل غرام يرتفع سعره، تتبدد أحلام جديدة لشباب يبحث عن حياة مستقرة وسط عاصفة الغلاء.
لكن وسط هذا المشهد القاتم، يطل بصيص أمل من جيل بدأ يعيد صياغة مفهوم الزواج، جاعلاً الاحترام والشراكة أثمن من أي ذهب في الدنيا.