الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
حيثما كنتم اخلعوا نعالكم، وتوّضّؤوا بزفراتِ هذا الفجر المعمَّد بدماء الشّهداء الأبرار، فكلّ تنهيدةٍ لنسمةٍ تحمل معها ألف آهٍ لأمٍّ هنا، وأمٍّ هناك، حذارِ أن تسرعوا الخطى إلى شرفاتِ هذا الفجر الجريح، دون أن تمعنوا النّظر في كلِّ موطئ قدم، ففي الطّريق إليه تناثرت قلوب الكثير من الأمّهات.
في بلادِ الياسمين الجريح، المخضّب بنبضِ أرواحٍ ارتقت إلى العلا وهي تذود عن عطره، بات كلّ منّا عطّاراً لا يمكن لسواه أن يعرف الخلطة السّحريّة الّتي يصنعها لنفسه، لتصلح له ما أفسدته هذه الحرب القذرة، وتبقيه على قيد الوطن، مبرهناً أنّ لقاعدة العطّار والدّهر استثناء واحداً هو الشّعب السّوريّ العظيم، ففي بلادي الجريحة بات كلٌّ منّا خيّاطاً بارعاً، يتقن رتقَ ما استطاع إليه سبيلاً، من خيوط الأمل مهما كانت واهية.
ها هي أمّي، وكلّ أمٍّ لشهيد أو جريح أو مفقود، تعجن كلّ منهنّ رغيف الفرح مغمّساً بدموع قهرها، تغزل من خيوط العمر معاطف محبّة وأمان، تقبض على جمر قلبها بيديها، وتُودعه في مدافئ أعمارنا ليغمر الدّفء والحنان أرواحنا. كلّهنّ فراشاتٌ يهبن ألوان الفرح لمن حولهنّ، ولكنّ أجنحة أفراحهنّ الهشّة، تحترق وهي لا تقاوم اقترابها من ضوءٍ ماضٍ جميلٍ، عشنه مع فلذاتِ أكبادهنّ الّذين وهبوا الوطن أرواحهم.
هو البنفسج الحزين في أعينهنّ، يقصّ حكاية دمعةٍ احترقت وامتدّ لهيبها لِيُلوِّن الوريقات بشفقٍ غريب، فكم من أمّ تَعُدّ الكراسي الخاوية على مائدة فرحٍ بات غابراً.. كم من ريحٍ تعول في بيوتٍ بات يخنقها الخواء.. هل تدرك الجدران أنّها بتلك الصّور المعلّقة عليها، قد أصبحت فتيلاً لبراكينِ القلب والرّوح مع كلّ نظرة إليها.
لكلّ أمّ في بلادي حكاية. تقول إحداهنّ: «لا زلت أنتظر عودته، لا زال كلّ شيء في غرفته على حاله.. أعرف أنّه لن يعود، ولكنّ قلبي يأبى الاعتراف».
تقول أخرى: «لم أعتد على الطّبخ في إناءٍ صغير.. كلّما أعددتُ طعام الغداء أنسى أنّهم ارتقوا إلى السّماء».
تقول أمّي: «سُبَّحَتي فقدت حبّتَين، لم يعد هناك ما يجعلني أحبّ الحياة سوى الحبّات الباقية.. ولولا ذلك لتمنّيت أن ألقاهما في السّماء عمّا قريب، فالحياة لم يعد لها طعم أو لون».
تقول أمٌّ لشهيد لم يعد إليها جثمانه، فحُرمَت من وداعه أو مواراته الثّرى: «سأبقى أنتظر أن يطرق بابي حتى آخر شهقةٍ في عمري.. كيف أصدّق أنّه مات دون أن ألقي عليه نظرة وداع أخيرة؟!»
يقول طفلٌ لشهيد، يقف على شرفة المنزل متضرّعاً بالدّعاء: «أدعوك من هنا يا الله لتسمعني جيّداً.. أخبر أبي أنّنا لسنا بخير. قل له أن يعود.. أشعر بالبرد يا الله».
يقولون ويقولون، وفي كلّ قصّةٍ وجعٌ أكبر، وسُحُبٌ تُمطر غصّات أليمة في عمرٍ بات قاحلاً من دون من فقدوا.. ولكن لا خيار لنا جميعاً سوى لملمة جراحاتنا والتّعالي عليها.
ربّما تسفعنا رياح الفقد ومواجع الخيبات، ربّما تلتهم الغربان نبض أفراحنا وخير نهاراتنا مع كلّ رفّة عين ونبضة قلب، ولكنّنا صامدون، وكلّنا إيمان بمقولةِ الرّائع الكبير محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة».
الرّحمة، كلّ الرّحمة، لأرواح شهدائنا وقدّيسينا الّذين جادوا بأغلى ما يملكون ليبقى الوطن عزيزاً.. ولك سوريّتي الحبيبة نبض الحبّ والحياة.
التاريخ: الثلاثاء4-5-2021
رقم العدد :1044