الملحق الثقافي:أمين غانم:
احتل الفكر اﻷسطوريّ، المكان الذي شغله العلم طوال الجزء اﻷكبر من تاريخ البشريّة، فقد قدّم للبشريّة البدائيّة تفسيراً علميّاً متكاملاً للعالم، وكان يعبّر عن نظرة الشعوب إلى الحياة والطبيعة والعالم، فعمل على جمع اﻹنسان والطبيعة في وحدة واحدة لا فاصل بينهما، حيث صبغت الأسطورة الظواهر الطبيعية غير الحيّة بصبغةِ الحياة، وسادت في عصور طفولة البشريّة، حين حاول اﻹنسان أن يفهم العالم المحيط به.
والأسطورة بما هي جامعة للأنماط النفسية والانفعالات العامة، وما تملكه من قوّة عالية من التخيّل، ما دفع الفنانين واﻷدباء للعناية الفائقة بها، واستخدامها في أعمالهم من خلال التضمين واﻹسقاط، وتجانس الصور والرموز في التحوّل، وخلق عناصر جديدة بما يسمى كيمياء اللغة أو اللون، وإزالة كلّ معاني الشرط اﻹنساني وأوهامه وتخيّلاته، من طريقهم إلى الحرية والحداثة، إلى انتحال رحيق اﻷسطورة، وتحويله إلى رموزٍ، ثم إلى خلقِ كلّ فنان رموزه الخاصة، والرمز يُعرف عادة، بذلك الشيء الذي يوحي بشيءٍ آخر، بفضل وجود علاقة معينة بينهما.
وﻷن اﻷسطورة بقيت فنيّاً حاضنة للعمق اللاواعي الجمعي للبشريّة، فقد كانت رموزها موشَّحة بالغموض، فالفنان لم يستخدم الرمز بالمعنى الشائع المعتاد، بل ابتكر أساليب جديدة من لا وعيه، تتَّجه نحو خبرته وأعماقه، فتظهر متنكّرة في ثوبٍ خياليٍّ جديد.
أكثر ما شغلت الشاعر الفنان، أساطير الخصب والولادة وقوّة الحياة – قتل أدونيس-والتحول- بروميثيوس- وتناغم الكون – أورفيوس – إلى أسطورة سيزيف، وعبثية الحياة ومصيرها.. شغلته هذه الأساطير، فعمل على إسقاط رموزه عليها، كقوّة تضمينية مفعمة بالمعاني المزدحمة المدهشة، مع أن بعض الشعراء وخوفاً منهم على فهم القارئ، وقعوا في شباكِ اﻹشارة – أي تحوّل الرمز عندهم، من قوّة لا واعية خلّاقة، إلى اﻹشارة والشرح وإضعاف المعنى وتأطيره.
فنرى السياب – مثالاً لا حصراً- تطورت رموزه من المباشرة واﻹشارة والبساطة في استخدام اﻷسطورة، إلى قوة التساؤل والقلق وخلق أسطورته مذهلة كاملة في أنشودة المطر، من خلال صعود أناه الواسعة واندماجها الكونيّ، في البعث والتجدد.
كانت اﻷسطورة ومازالت، نوعاً من اللغة الشعريّة، لها منطقها الخاص، بل لا نستطيع أن نميز الشّعر عن اﻷسطورة، التي تحفظ تطور اللغة والقدرة على وضع الرموز وصناعتها، مرتبطة كلّياً بالإنسان الناطق صانع الرموز، والطاقة اﻷصليّة الخلاقة، هي التحوّل الحقيقي من لغةٍ محفوظة، إلى لغةٍ متجددة أبداً.
أيضاً، كانت اﻷسطورة هي الجسر الواصل، بين الفنّ والمعرفة الخاصة بحياتنا الداخليّة والعلم، والمعرفة الخاصة عن حياتنا الخارجية، كما أنها المفتاح الحقيقي ﻹبداعِ الشّعر والفنّ والحلم، سواء أكانت من قوّة المخيلة والحلم الفردي الفرويدي، أم من النفسيّ اليونغيّ، والحلم الجمعي، والمخيلة القويّة للطفولة الكونيّة البدائيّة.
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046