الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
في كتابه “موت الغرب” يشير الكاتب والمفكر الأميركي “باتريك جيه بوكانن” إلى أن هذا الموت، ليس فقط بسبب السقوط الأخلاقيّ، الذي هشّم كلّ القيم التربويّة والأسريّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة، بل هو أيضاً، موتٌ بيولوجيّ وديموغرافيّ، أي نقص سكانيّ وموتٌ طبيعي..
يشير أيضاً، إلى أن اضمحلال القوى البشرية في الغرب، وإصابة من تبقّى من سكانه بشيخوخة، أدى إلى خسارةٍ لا يمكن تعويض ما قد تسبّبه، إلا باستقدام مهاجرين شباب، تعتمد عليهم كقوى عاملة ومنتجة..
إنه موتٌ حقيقي، دفعه للبدء بتعرية سياسات قادة الغرب، ممن لم يسعوا لإيجاد حلّ يخلص بلادهم من عجزها وشيخوختها، ولا لجعلها الأفضل كما تبجّحوا، والأقوى كما كرّروا وادّعوا، بل والأشدّ قدرة على المنافسة، كما توهّموا.. ذلك أنه لم يرَ منهم، سوى همجيّة سياستهم، التي كانت سبباً في الانقسام الأخلاقي، وفي كلّ البشاعات التي جعلت شعوبهم، لم تعد تصدق إلا ما تراه واقعاً، وهو أن آلهتها أزيحت عن عرشها، وأبطالها لا يصلحون حتى للتخيّل، فقد انتكست أقدارهم، وتلوّثت ثقافتهم، ودُنّست قيمهم، وباتوا مجرّد موتى لا يتكاثرون، ولا يتجدّدون، ولا يُنتجون…
كلّ هذا جعله يخاطب من نفخ من هؤلاء القادة ببوقه: “ألم يكن هذا الزمان برأيكم هو زماننا.. زمن القوّة العسكرية التي لا تُنافس، والوعد الاقتصادي، والتأثير الثقافي..
الغرب يموت، ولم يعمّ منذ الموت الأسود الذي حصد أرواح ثلث سكان أوروبا، تهديدٌ لبقائنا، مثل هذا الخطر الماثل.. اليوم هناك سبعة عشر بلداً أوروبياً فيها جنازات دفن، أكثر من احتفالات الولادة، وهناك أكفان أكثر من المهود..”.
يخاطبهم بذلك، محذّراً إياهم: الموت المقبل عليكم، سيكون مريع أكثر، لأنه وباءٌ ومرضٌ من صنع أيدينا وأفكارنا، لا من سببٍ خارجي، ما يجعل هذا الموت، أخطر وأسوأ بكثير من الوباء الأسود، الذي قتل ثلث سكان أوروبا، في القرن الرابع عشر”.
بيد أن أكثر ما استفزّه، فنبّه إلى خطورته، سبب توقف شعوب الغرب عن إنجاب الأطفال، بل وتقبّلهم لفكرة اختفائهم واندثارهم عن هذه الأرض، لا مبالين بالنتائج الكارثية الناجمة عن هذا الاندثار..
حتماً، ما أراد من تنبيهه هذا، سوى تبيان النتائج القاتلة لثقافة الغرب الجديدة، أو موتهم الأخلاقي الذي كان السبب الأكبر والأخطر، لما آلوا إليه من موتٍ بيولوجي.. السبب الآخر، انهيار القيم الأسرية والمجتمعية، وانتشار العلاقات الشّاذة، وانحسار المبادئ والأعراف الإنسانية..
باختصار، هو كتاب يبيّن كيف استغنى الغرب عن منظومته الثقافية والفكرية والإنسانية والأخلاقية، وكيف ترك شعوبه تنهار اجتماعياً وأسريّاً، وبالتالي تموت بعجزها وتعاني من نقص وشيخوخة سكانها.
يبين أيضاً، بأن ذلك هو نتيجة طبيعية لثقافة رأس المال، والسياسة الغربية الوحشية التي سلّعت كلّ شيء في الحياة، حتى الأخلاق والمفاهيم والقيم..
بالتأكيد، لم يكن ما أورده الكاتب هو مجرّد توقّعات أو تخمينات لموت الغرب، بل كان حقيقة أكّدها بلغة الأرقام المخيفة في ارتفاعها، فهو يذكر أن الرقم السنوي لعمليات الإجهاض في الولايات المتحدة، قد ارتفع من 6000 حالة عام 1966، الى 600,000 حالة عام 1976، وبأن عملية قتل الأجنّة مسموحة للمرأة، وهي حقٌّ يحميه الدستور.
يذكر أيضاً، تفاقم حالات الانتحار بين المراهقين الأمريكيين، مثلما أعداد مدمنيّ المخدرات، وغير ذلك مما لم يدلّ عليه بالأرقام فقط، بل وبالإحصائيات التي قال عنها:
“هي إحصاءات مجتمع منحطٍّ، وحضارة تحتضر وتموت، فبلدٌ مثل هذا لا يمكن أن يكون حرّاً دون فضيلة، ولاوجود للفضيلة بوجود التعصّب الأعمى..”..
نعم، هي الحقيقة التي دلّ عليها بتفصيلٍ أوجزناه، معتمداً على آراءِ وأقوال كثرٌ جداً من الكتّاب والمفكّرين الغربيّين، ومنهم الفيلسوف والناقد المجري “جورج لوكاتش” المعروف بتساؤله: “من الذي يحرّرنا من نيرِ الحضارة الغربيّة”؟..
أيضاً، الكاتب الإنكليزي “ألدوس هيسكلي” في روايته “عالم جديد شجاع” حيث رأيه: “إن الدولة الشموليّة الكفء، ستكون دولة يسيطر فيها الأقوياء من الرؤساء السياسيين، مع جيشهم، على سكانٍ من العبيد الذين لا داعي لقسرهم، لأنهم يحبّون عبوديّتهم.”.
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046