الملحق الثقافي:سهيل الذيب:
يؤكد الكاتب الروائي الدكتور “حسن حميد”، أن بطل روايته هذه “عبد الله” أو “عبوده” عثر على هذا الكتاب، في صندوق جدّه “إلياس الشمندوري” حيث تهيّب أربعون جَداً من فتحة، ليجد فيه كلّ شيءٍ تقريباً، فضة وذهباً وغيرهما، ويقول إن أجداده خافوا من فتحه، حفاظاً على ما فيه من أسرارٍ، وخوفاً من جلبِ اللعنة على الأسرة، وقد تأذّت الصفحات الأخيرة من الكتاب، عن حياة جدّه في محيط بحيرة طبرية، قرب أجران المياه الكبريتية الساخنة.
يروي الكاتب روايته على لسان بطلها “عبد الله” أو “عبّودة”، الذي ولد ضعيفاً هزيلاً مريضاً، وأمه كذلك، فأخذتهما النسوة إلى الكنيسة للمباركة والتطبّب، وفيها كُتبت له الحياة على يدِ كاهنها طنّوس، فعدّه حمودة أباه لأن أباه الحقيقي سافر إلى عكا ولم يرجع. وعليه تعلّم القراءة والكتابة والرسم والنحت، بتحريضٍ من ماريا التي ستكون حبيبته التي ولّهته كما ولّهها، والتي تكبره بسنين كثيرة، كما علّمه أنّ أغنى ثروة في العالم هي الإنسان، وأعظم سعي هو المحبّة.
البنية الروائية:
اعتمد الكاتب في هذه الرواية الأسلوب التناوبي، وهو أسلوب يسهّل العمل الروائيّ، فما إن يتحدث في فصل عن هدلة أم عبودة والكاهن طنوس وعبودة وماريا، حتى ينتقل إلى موضوعٍ آخر يربطه بخيطٍ مع قصته الأساسيّة، وأعني به حلول الغجر بالقرب من قرية “الصبيرات”.
المكان الرئيس لأحداث هذه الرواية ـ حيث يتمُّ بناء خيمةٍ كبيرة لهم من أهل القرية، وفي ساحتها يقف الرجل العجوز المسمى الخال لتفحص حديثات الولادة مع أطفالهن الذكور، إذ يمررن أمامه للبحث عن علامات محدّدة في وجوه الأطفال ورقابهم، مخبراً الجميع أن مولوداً جديداً في القرية لم يؤت به وأنه ينتظر مجيئه، فينشط الأهالي بحثاً عن المرأة التي أخفت مولودها وحجبته عن المباركة، ليكون الخال الجديد بعد الخال العجوز، والخال هذا يدعو السماء فتمطر ويمسح على الأجساد فتشفى من أمراضها، وكأنني بالكاتب اتّكأ على حادثة ولادة السيد المسيح في مغارة بيت لحم، وأعطى بطلنا بعض صفاته ليكون الطفل عبودة كالطفل يسوع، حين ولد ففتشوا بيت لحم والمدن المجاورة بحثاً عنه، إذ تقول الحكاية الدينية إن هيرودس الحاكم، أمر بالبحث عن علامات في أجساد الأطفال لقتل جميع الأطفال دون السنتين، لعلّ يسوع يقتل معهم فيما سمي مذبحة الأبرياء، بعكس ما رمى إليه حميد.
يعود الكاتب في الفصل الذي يليه في الطريق إلى الكنيسة للحديث عن عبودة المريض الذي سينهض من فراشه بعد أن استجاب له جسده، ويمضي إلى ماريا حبيبته ابنة الكاهن طنّوس، ليرى هناك احتفالاً كرنفالياً آخر حولها لدرجة أنه لم يجد باب الكنيسة الذي حجبته أكياس الخيش الكثيرة، فبدأ صارخاً ومنادياً ماريا، ليجد نفسه داخل الكنيسة ولمّا لم يجدها، خرج فإذا المكان خلا من كلّ شيء إلا البضاعة الكثيرة التي تركها أصحابها لتحرسها طيور الكراكي التي تتّسم بالانعزالية والتكتم الشديد، والعيش في الوحول والطين، وفي الحقيقة لم أجد مسوّغاً لعنونة الرواية بهذا الاسم، لكن حين مرّ عبودة من أمامها لم تنفر منه، وحين عاد إلى البيت فإذا الناس يتجمهرون حوله بكثافة، وإذا الأيدي تأخذه بلهفة شديدة إلى أمه التي كانت مع النساء يفترشن الطين ويبكينه، وإلى جوارهن الأب طنّوس حائراً ذاهلاً وهو يصلي، وحين رآه خاطب أمه: لقد عاد، ارفعي رأسك أيتها المرأة فمن تسألين عنه.. وقد أخذتني هذه الحادثة إلى حادثة القيامة وحاملات الطيب، وقول مريم المجدلية: من تبحثن عنه قد قام.
سأكتفي بهذا التبسيط لرواية كبيرة الحجم والأهمية، حيث بلغ عدد صفحاتها ثلاثمئة وعشرين صفحة من الحجم الوسط، موزعة على ثمانية وعشرين عنواناً، ما عدا الإهداء إلى روح والده، وتتسم بالإيغال بالوصف، وأزعم أنه أثقل الرواية في بعض مفاصلها، ما أثّر أحياناً على القدرة على متابعة أحداثها الشادة المغويّة والمشوّقة، وعلى الرغم من أسلوبه الخاص جداً ولغته الرفيعة المستوى، وتميز تقنية سرده، استطعنا أن نلحظ أن الرواية منسوجة من عدد من القصص يربط بينها خيط رفيع، وكلّ قصّة يتفرّع عنها مجموعة من الحكايات والحدوتات القصيرة، وأهمها قصّة ماريا وعبودة وحبهما الكبير المبارك من أمه وأبيه، على غير عادة القصص العربية الضاجّة بالمنع والتأنيب والضرب وحتى القتل لأيّ عاشقين، والقصّة الثانية هي المرأة التي نهشها الوحش فماتت واختفاء ابنتها فضة التي خرج جموع الغجر بحثاً عنها، ليأخذنا الراوي إلى قصّة حب حزينة أخرى، بين فضّة والزهروري صياد السمك، وقد تخللتها بعض المشاهد الساخنة في حوض السباحة بطريقة وصفية راقية، أعادت الدماء إلى عروقنا، فهو يشير ويلمح من دون أن يصرّح. أما الحكاية الثالثة فهي حكاية بحيرة طبريا والبنت ريّا التي عشقت خيّالاً ماراً بالقرب من حوض السباحة (الذي كان أحد أبطال هذا العمل) وعشقها فبدت مع كلّ غياب لمعشوقها، تذوي وتذوب حتى انطفأت كقنديل، فأخذها أهلها إلى بحيرةِ لوط لتنقع جسدها في أجران المياه الكبريتية الساخنة حتى استعادت عافيتها، ويعرج الدكتور حسن حميد على سبب تسمية بحيرة طبرية بهذا الاسم، فقال إنها من طب.. ريّا، أي تطبب ريّا، أما الأب طنوس فيرى أنها من تبرا بنت جبارة عوّاد، أمّا الرومان فنسبوها إلى امبراطورهم طبريا نوسى.
إضافة إلى تلك القصص الرئيسة، هناك قصّة أبو قدّورة مع غجرية تدعى زريدة التي أعطته كل شيء واختفت، فعاش بين الغجر لعله يلقاها، وفي هذه الأثناء يتزوج غجرية فيتبيّن له أن لها علاقات مع كثير من الرجال، وكذلك القصّة الأهم، وهي تعتمد على المحبة والإنسانية الخالصة، البعيدة عن أيّ اقتراب من الجسد، والتي جمعت هدلة أم عبودة بالكاهن طنوس، وكذلك تلك التي جمعت هدلة بزوجها المختفي منذ زمن بعيد.
ألخص فأقول، إن هذه الرواية اتّسمت بأنها جمعت بين دفتيها كل أنواع الحب، وهو بالمجمل حبّ عفيف نزيه لا يحده حد، وكأن الكاتب من أولئك الرهبان الذين عاشوا في المغر والكهوف، ولا يعرفون إلاّ صلاة المحبة والعفّة في أفعالهم وأقوالهم. أمّا الصفة الأهم التي اتّسمت بها هذه الرواية، فهي الفقد بمفهومه الواسع، فماريا ضاعت وأم عبودة كذلك في بحثها عن زوجها في عكا، وفضة اختفت وأمها ماتت، وكذا ريّا ماتت عشقاً، والأب طنوس مات، ولم يبقَ حياً سوى أنا وبطلها عبودة الذي لاب بحثاً عن أمه وحبيبته، وذاب حزناً على الأب طنّوس.
الكراكي رواية البحث عن الحقيقة في ضياعٍ كلّي، وفيها قدّم الدكتور حسن حميد نفسه، رقما مهماً في الرواية العربية.
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046