معوقاتُ سيادة العقل النقديّ.. في المجتمعات المتخلِّفة

 

الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *

العقل النقدي برأيي، هو جملة المعارف المنطقيّة الواقعيّة المكتسبة على أسسٍ منهجيّة، والتي يحوز عليها الفرد أو الجماعة، عبر علاقاتهم التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع. أي هو عقلٌ يؤسّس على التجربة والملاحظة الحسيّة، والاستقراء والاستنتاج والبرهان، وبالتالي هو عقلٌ مندفع تماماً نحو الخلق والإبداع، وإنتاج معرفة تمكِّننا من تحسين أوضاعنا في هذا الكون، على عكس العقل الإتباعيّ، أو النقليّ، أو التأمليّ، أو الحدسيّ، الذي يؤدي إلى ركود وجمود المعرفة والواقع معاً، وعزلهما عن بعضهما.
لقد شكَّل العقل النقديّ عند معتنقيه تاريخيّاً، سلاحاً بوجه كلّ قوى الظلام والجهل والظلم والاستبداد، وغالباً ما لقي الحامل الاجتماعي له، أو المدافع عنه، الكثير من المعاناة والعقبات التي حالت ولم تزل تَحُولُ، دون تطبيقه على الواقع.
أما أهم العقبات التي تَحُولُ دون سيادته، أو انتشاره وتعميمه، داخل البنية الذهنيّة للفرد والمجتمع، عند المجتمعات المتخلفة، فهي:
أولاً: سيادة وانتشار الفكر الغيبيّ والساذج، المشبع بالخرافة والأسطورة، على عقول الكثير من أبناء هذه المجتمعات المتخلفة، أو حتى المُخلَّفة التي تنتشر فيها الأميّة الحرفيّة والمعرفيّة، ويسود بين أفرادها الجهل، الأمر الذي يحدُّ كثيراً من قدرة العقل النقديّ، على ممارسة دوره في مضمار حياة الدولة والمجتمع، بما يحتويه هذا المضمار من علاقات ماديّة وروحيّة بين مكوناتها – أي حياة الدولة والمجتمع – على اعتبارها علاقات يتحكّم فيها غالباً، العرف والعادة والتقليد، أكثر من تحكم القوانين المنطقيّة القائمة على المحاكمة العقلية والتحليل والتركيب.
ثانياً: سيادة الفكر الديني السطحي، في صيغته الغيبيّة الاستسلاميّة الامتثاليّة الوثوقيّة، التي يشكّل الماضي بكلِّ ثقله، الماديّ والروحيّ «القيمي»، مرجعها الفكري والسلوكي معاً. وهو ماضٍ مقدس عند المجتمعات المتديّنة أصلاً، فما نقل إليها من هذا الماضي، لا يمكن قبول تجاوزه أو تعديله أو مراجعته أو نقده بسهولة، أو برغبات إرادويّة، فقانون «هكذا وجدنا آباءنا يفعلون»، لم يزل طريّاًّ وحيويّاً في فاعليته وانتشاره، وما يؤكد حضوره، خوف الناس عادةً من كل جديد، على اعتبار الإنسان قد ألف التقليد، ومال إليه نفسيّاً وأخلاقيّاً وسلوكياً، لذلك فإن مسألة تبديع الجديد دينيّاً، أو تبخيسه وتسفيهه اجتماعيّاً، هي أمر وارد، تسهم في حضوره العلاقات الاجتماعيّة والفكريّة والنفسيّة والأخلاقيّة السائدة.
ثالثاً: سيادة الكسل الفكريّ، والاسترخاء الذهنيّ، والابتعاد عن تشغيل العقل والحواس والتجريب بغية الوصول إلى الحقيقة، الأمر الذي يُوصل الكثير من أفراد هذه المجتمعات، إلى درجة الاستمناء بلذّة ما هو سائد من أفكارٍ سطحيّة وبسيطة وساذجة وهامشيّة إلى درجة التفاهة، وهذا ما يشكّل هنا أيضاً، أحد العوامل الرئيسة التي تحول دون تحقيق سيادة العقل النقدي، ومقاومة أو كره الحصول على المعرفة الجديدة ذات الطابع العلميّ بكلِّ أنساقها المعرفيّة، إن كان بشقها الاجتماعي من جهة، أو بشقّها العلميّ الماديّ من جهة ثانيّة، وهي معرفة تتطلب بالضرورة، البحث والتقصّي وبذل الجهود المضنية لتحصيلها، فلا نستغرب مثلاً، كيف يتهرّب الطلاب من اكتساب المعرفة في مدارسهم، ويتضايقون من دروسهم ودوامهم المدرسي، وكيف تتناقص أعداد الطلاب الذين يصلون إلى المراحل العليا في التعليم.. لا نستغرب أيضاً، كيف تُحْتَقَرُ الفلسفة ويُكَفّْرُ أهلها منذ كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي حتى تاريخه، وهي العلم المعرفي «الابستمولوجي» الشمولي، الذي يبحث في سرّ حركة الطبيعة والمجتمع، من أجل اكتشاف القوانين التي تتحكّم في آليّة هذه الحركة، كما تبحث في المعرفة ذاتها كمواضيع إنتاج معرفيّ، من حيث كيفيّة إنتاجها، وإمكانيات استخدامها أو توظيفها لمصلحة هذه القوى الاجتماعيّة أو تلك، بعد تحويلها إلى أنساقٍ معرفيّة سياسيّة واقتصاديّة وفنيّة وأدبيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة وقانونيّة وغيرها، والمهم في وظيفة هذه الفلسفة، معرفة كيفيّة تحويل هذه الأنساق المعرفيّة، إلى أيديولوجيا مغلقة عند الذين يبحثون عن مصالح ماديّة أو معنويّة ضيقة، تسهم في تخلّف المجتمع وعرقلة تقدمه، وبالتالي تحقيق نهضته.
رابعاً: وجود الأنظمة المستبدّة، بكل تجلياتها وأشكالها، وخاصة الأنظمة الشموليّة والديكتاتورية منها، وهي أنظمة غالباً ما تفتقد لشرعيتها الدستوريّة بالنسبة لوجودها في الحكم، وغالباً ما تقوم بتفصيل صيغ ديمقراطيّة على مقاس مصالحها.
إن طبيعة هذه الأنظمة المستبدة، سَيُفْرَضُ عليها بالضرورة اتباع سياسات براغماتيّة تجاه رعاياها ولا نقول مواطنيها، بحيث تسعى من خلال هذه السياسات إلى تهجين هؤلاء الرعايا، أو نمذجتهم وفق معايير اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة تخدم مصالح قادتها، أو بتعبير آخر إجراء عمليات مسح عقول لهؤلاء الرعايا، تبعدهم عن كلّ ما يسهم في تنويرِ هذه العقول، أو يفتح المجال واسعاً أمام معرفتهم حقيقة أمرهم، كشعوب قد استلبت منهم حقوقهم الطبيعيّة كمواطنين أولاً، ثم واجباتهم الإيجابية التي يفرضها عليهم القانون ثانياً، كون هذه الحقوق والواجبات، ستعمل على تجذير المواطنة بين أفراد المجتمع ومكوناته، والانتقال بالشعب من رعايا إلى مواطنين. ولكي تحقق هذه القوى الحاكمة في دولها شموليّة سياساتها التجهيليّة، تلجأ قبل أي شيء إلى توظيف الجانب الوثوقيّ الاستسلاميّ النقليّ في الدين، وهذا يتطلب خلق مؤسسات دينيّة يُؤمّن لها كلّ مستلزمات تطبيق هذه السياسة، من خلال إقامة المدارس الشرعيّة والمعاهد الدينيّة، وبناء أكبر عدد من الجوامع، وفسح المجال واسعاً أمام تحويلها، إلى مراكز لإعطاء الفكر الديني النقلي الغيبي الامتثالي الاستسلامي، الذي يحارب العقل النقدي، ويعمل على إقصائه من خلال تكفير وزندقة من يشتغل عليه من مشايخ أو مفكرين إسلاميين تنويرين، أو حتى مفكرين علمانيين تنويريين. يضاف إلى وسائل التجهيل هذه، استخدام المؤسسات الإعلاميّة والثقافيّة المسموعة والمقروءة والمرئيّة لهذه المهمة التجهيلة/التهجينيّة أيضاً، وذلك من خلال تركيز عمل هذه الوسائل على القضايا الجزئيّة الهامشيّة أو الثانويّة والشكليّة، في حياة الفرد والمجتمع، كأن تركّز على مسألة الأزياء والطبخ وكيفيّة ترتيب المنزل، أو بث المسلسلات المشبعة بقضايا اجتماعيّة ذات حلول فرديّة، أو تناول مسلسلات بدويّة لم يعد لمواضيعها وجود على أرض الواقع، أو بث دراما تاريخيّة مشوّهة ينافق كتابها كثيراً للتاريخ، فتأتي مضامينها مضخّمة بالقيم النبيلة كالكرم والشهامة والمروءة والبطولة، وإغاثة المظلوم، والدفاع عن المرأة، ومحاربة المعتدي أو المستعمر، أو التركيز على شخصيات تاريخية تعطى صفات البطولة الإيجابية وكأنها من صنف الملائكة ..الخ.
هذا التوجه المريض قيمياً نجده أيضاً، على مستوى المنهاج التربويّة التي تغيب عنها وخاصة في الجوانب الاجتماعيّة والفكريّة، قضيّة استخدام العقل النقديّ والنظرة الموضوعيّة إلى الحاضر والمستقبل، فالماضي يظلّ في هذه المناهج، هو المرجع الأساس في التفكير..
هذه هي أبرز المعوقات التي تعرقل عمليّة بناء التفكير العقلانيّ النقديّ، في المجتمعات المتخلفة والمجهلة، وهذه هي أسباب الفوات الحضاري لهذه المجتمعات حسب رأينا.
 *كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com

التاريخ: الثلاثاء18-5-2021

رقم العدد :1046

 

آخر الأخبار
درعا.. القبض على عصابة قطاع طرق الشرع يبحث مع ملك البحرين في المنامة العلاقات الثنائية والأوضاع الإقليمية تشكيل مجالس علمية في مشافي حلب   الاحتلال يقصف خياماً للنازحين.. والأمم المتحدة ترفض خطة المساعدات الإسرائيلية الأمن العام يعزز تواجده على أتوتستراد دمشق - درعا رفع كفاءة كوادر وزارة الكهرباء في مؤتمر "نهضة تك".. وزير الاتصالات: نلتزم بتوفير بيئة تقنية ومنظومات رقمية تخدم المجتمع France 24: إضعاف سوريا.. الهدف الاستراتيجي لإسرائيل فيدان: مبدأ تركيا أن يكون القرار بيد السوريين لبناء بلدهم "أوتشا": الألغام ومخلفات الحرب تخلف آثاراً مميتة في سوريا الرئيس العراقي: القيادة السورية من تحدد مستوى المشاركة في القمة العربية مؤتمر "نهضة تك" ينطلق في دمشق.. ومنصة "هدهد" لدعم الأسر المنتجة جودة طبيعية من دون غش.. منتجات الريف تصل المدن لدعم الصناعة السورية.. صفر رسوم للمواد الأولية أرخبيل طرطوس.. وجهات سياحية تنتظر الاهتمام والاستثمار مركزان جديدان لخدمة المواطن في نوى وبصرى درعا.. تنظيم 14 ضبطاً تموينياً اللاذقية: تشكيل غرفة عمليات مشتركة للسيطرة على حريق ربيعة الشعار يبحث تحديات غرفة تجارة وصناعة إدلب شراكة لا إدارة تقليدية.. "الإسكان العسكرية" تتغير!