في ذروة الهجمة الإعلامية التي تركزت حول مخيمات اللجوء السوري في الجوار، كتب مواطن عراقي على موقع صحيفة منغمسة في الهجمة، عن استغلال معسكرات الحدود لغايات إعلامية وسياسية معادية لسورية، حيث رأى أنه لو لم تكن هكذا هي الغايات لكان تم التعامل مع المقيمين فيها مثلما تعامل السوريون مع ضيوفهم العراقيين.
كتب: « أنا واحد من ملايين العراقيين الذين هجرتهم حروب الديمقراطية الأميركية ولا أستطيع أن أقول عن نفسي لاجيء فقد أمضيت في سورية ثلاث سنوات من أجمل أيام حياتي بفضل رحابة السوريين وحفاوتهم وكرمهم وطيب معاشرهم فقد عشت بينهم كواحد منهم ولم يشعرني أحد أنني غريب. عشت في المدن وتنقلت بينها ولم أقم في مخيم لجوء على الحدود، ولهذا لا أحتمل فكرة أن يلجأ سوري لبلد مجاور في حين يمكنه التوجه إلى أي مكان في سورية فيحظى بمثل ما حظينا به»
هي حالة استثنائية بكل الأحوال، لكن الأصيل هو علاقة السوريين مع أشقائهم العرب القائمة على إيمان عميق بالأخوة، وهي تضرب بجذورها عميقاً في التاريخ منذ استضافتهم للمقدسيين الهاربين من مجازر حروب الفرنجة فأقاموا بينهم وأنشؤوا حي الصالحية الشهير في دمشق، الى استضافة مئات آلاف الفلسطينيين الذين هجرتهم الحرب الغربية بذراعها الصهيونية عام 1948 فعاشوا في سورية كالسوريين ومنهم من شغل مواقع سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية وثقافية كبرى، وصولاً إلى اللبنانيين الذين كان لهم حظوة كبرى من حفاوة الضيافة حين لجأ آلاف منهم إلى سورية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وخلال الحروب العدوانية الإسرائيلية عامي 1982و2006.
السوريون لم يتصرفوا وفق مشاعرهم القومية فحسب، وإنما وفق مشاعرهم الإنسانية أصلاً، وفي شواهد التاريخ ما يؤكد هذه الحقيقة، فقد فتحت سورية أبوابها للاجئين ألبان وشراكسة وأرمن وسواهم، سرعان ما صاروا جميعاً من أبنائها الأصليين، يتشاركون مع الآخرين بالحقوق والواجبات ذاتها، ويتقاسمون خيرات الأرض دون اعتبار لاختلاف عرقي أو قومي أو ديني أو مذهبي. صحيح أن الصورة لم تكن دائماً بهذا الإشراق، فمقابل ما سبق وجد دائماً من لم يدرك روعة الخصوصية السورية، ورحابة المجتمع السوري، لا بين من يسكن في سورية فحسب، وإنما أيضاً ممن هم خارجها كما هو حال وزير قدم من المغرب عام 1300م وما كان قادراً على فهم (حالة المواطنة) في المجتمع السوري، فانتقد بشدة ما اعتبره حرية زائدة يتمتع بها أفراد بعض المجموعات الدينية، كارتدائهم لأفخر الثياب، واستخدامهم في أجلِّ المناصب، إلى أن نجح باستصدار قرارات من الحاكم المملوكي تحد من حريتهم الدينية والمدنية، وتنتقص من حقوقهم الإنسانية، وتلزمهم بأشكال تمييزية محددة من الملابس، وتحرمهم الكثير من حقوقهم كمواطنين في الدولة. وحتى اليوم يوجد في المحيط، القريب والأبعد، للوطن السوري من لا يستوعب جوهر تنوع المجتمع السوري، ولا يدرك أنه سر غناه وحيويته وتميزه، وليست المشكلة هنا فحسب، وإنما في سعي هؤلاء لفرض مفاهيمهم المنغلقة على مجتمع منفتح منذ أكثر من عشرة آلاف سنة.
ما سبق دفع إلى الواجهة سؤالاً مشروعاً عما إذا كان الانتماء الوطني السوري يتعارض مع الانتماء القومي العربي، كمظهرين للفكر الوطني والفكر القومي. وفي الواقع أن هذا السؤال نادراً ما طرح علناً في سورية التي تميز شعبها عبر تاريخه بحماسته القومية، إلى حد تكريس ثائر جزائري منفي زعيماً شعبياً لوأد فتنة طائفية أشعلها الاحتلال العثماني بمشاركة البريطانيين والفرنسيين، و تنصيب أمير حجازي ملكاً على دولتهم الفتية قبل أن يسقطها الاحتلال الفرنسي، و اختيار زعيم مصري رئيساً لجمهوريتهم المستقلة ، ليقيموا تحت قيادته أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، بإجماع أدهش العالم.
ولكن في المقابل فإن ما هو وطني كاد أن يذوب كلياً فيما هو قومي، إلى حد التحفظ على استعمال كلمة سوري، وهو تحفظ لم يكن مقتصراً على العرب المقيمين في سورية، والذين يتمتعون بكل حقوق السوريين بما في ذلك تقلد الوظائف الرسمية الكبيرة، وإنما هو قبل ذلك من صميم تفكير السوريين أنفسهم. ليس فيما سبق انتقاد للفكر القومي العربي الحاضن لكل الثقافات القائمة على الأرض العربية، من شرق العراق، إلى غرب المغرب، وإنما هي دعوة إلى التحرر من خوف الانحدار إلى العصبيات الكيانية. إذ دلت السنوات العشر الماضية على أننا بحاجة لكثير من العمل في مجال تنمية الشخصية الوطنية السورية، وتعزيز الانتماء إلى الوطن السوري..
بكل مكوناته.. وبكل تنوعه.. وغناه.
إضاءات – سعد القاسم