التنوير.. منهجٌ عقلانيّ في بناءِ حياة الإنسان

 

الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *

التنوير: مصطلحٌ، أو مفهوم، يشير إلى موقفٍ فكريٍّ أو ثقافيٍّ، يعتمد العقل أو العقلانيّة النقديّة ومبادئها، وسائل لتأسيسِ نظامٍ للأخلاق والمعرفة والسلوك، حيث تشكّل التجربة والملاحظة والاستنتاج والاستقراء والاستنباط، وأخيراً البرهان، وسائل أو أدوات معرفيّة للوصول إلى معرفة الوجود الاجتماعيّ، وما يتضمنه من ظواهرٍ أو علاقات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعية وثقافيّة، وما يتحكم في آليّة “ميكانيزم” سيرورتها وصيروتها، من قوانينٍ موضوعيّة وذاتيّة مرتبطة بالواقع المعيوش وخصوصياته، وليس بغيره من قوى أخرى خارج هذا الواقع، على اعتبار أن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، وهم من يحقّق مصير هذا التاريخ، بنشاطه القائم على حريّة إرادته ومصالحه.
من هنا نجد أن ما سمّي بعصر التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر، هو بداية ظهور الافكار العقلانيّة الداعية إلى تطبيق (العلمانية)، كونها – أي العلمانيّة – طريقاً لتحقيق الدولة المدنيّة، وعلى هذا الأساس كان روّاد هذه الحركة التنويريّة، يعتبرون أن مهمتهم وفق رؤيتهم التنويريّة، هي قيادة العالم إلى التطوّر والتحديث، وترك الرؤى والأفكار الميتافيزيقيّة واللاهوتيّة الوثوقيّة، أي المعارف الفلسفيّة والدينيّة ممثَّلة بالمثاليّة الموضوعيّة، والمثاليّة الذاتيّة، والإسميّة، والسكولائيّة (المدرسية)، واللا أدريّة .. الخ… أي ترك كلّ الأفكار اللاعقلانيّة التي أسموها “أفكار العصور المظلمة”.
من هذا المنطلق المعرفيّ والمنهجيّ، العقلانيّ التنويريّ، يمكننا تحديد أهم الأسس التي يرتكز عليها الخطاب والنشاط التنويري:
أولاً: استقلاليّة الوجود “الطبيعيّ والاجتماعيّ” بماديّته وموضوعيّته، وذلك انطلاقاً من اعتبار أن من يتحكّم بآلية سيرورة وصيرورة مفردات هذا الوجود، هي القوانين الموضوعيّة المستقلّة والقائمة بذاتها في هذا الوجود، بشقّيه الماديّ والاجتماعيّ، ولا تعطي هذه المفردات أيّ اعتبارٍ لأيّ قوى خارج مضمار هذا الوجود للتحكم بآليّة عملها، وما الإنسان ذاته إلا جزء من هذه المفردات الطبيعيّة المتنوعة، التي تشكّلت عبر ملايين السنين على هذه الكرة الأرضيّة(1).
ثانياً: ثوريّة أفكار التنوير، وذلك من خلال إدراك تاريخيّة الطبيعة والمجتمع. أي إدراك حركة وتطوّر وتبدّل مفردات الطبيعة والمجتمع، وعدم استقرارها على حالٍ واحدة، والأهم في هذا الاتجاه، هو إدراك الذات البشريّة كقوّة فاعلة ونشطة عبر التاريخ، حيث راحت تتحكّم بالكثير من قوانين الطبيعة والمجتمع، وتسخرها لمصلحة الإنسان.
ثالثاً: امتلاك الخطاب التنويريّ للروح النقديّة، وذلك من خلال تواصل أفكار التنوير، مع حركة وتبدّل مفردات الطبيعة والمجتمع، وبالتالي رفضها للثبات والامتثال والاستسلام، ونزع القداسة عن أيّة أفكار أو أشخاص أو علاقات خارجة عن نطاق العقلانيّ والملموس، وضرورة الالتزام بالعقل النقديّ كسلطةٍ رئيسة في إعطاء أو فرض الأحكام.
رابعاً: رفض التنوير للأفكار الغيبيّة والميتافيزيقيّة في المعرفة وتجسداتها، أي رفضها تقرير حقيقة أو عدم حقيقة العلم والأخلاق والتاريخ والدين والسياسة والفن والأدب، فهذه قضايا تقرّر حقيقتها أو عدمها مصالح الناس وظروف حياتهم المعيشية، فالمعطيات الفكريّة الغيبيّة والميتافيزيقيّة تشكّل عائقاً أمام إبداعات الإنسان ونشاطه في صنع تاريخه، فالفكر التنويريّ يعتبر هذه المعطيات أفكاراً ومفاهيم بدائيّة تشكّل معوقات أمام التفكير الحرّ والمسؤول، وكذلك أمام الممارسة العقلانيّة النقديّة أثناء إنتاج الخيرات الماديّة والروحيّة للإنسان، أي أنها تشكّل عوامل استلابٍ واستغلالٍ لذات الإنسان الحرّة.
خامساً: إن الخطاب التنويريّ يربط المعرفة بالواقع، ويعتبر الوجود بشقَّيهِ الطبيعيّ والاجتماعيّ، هو الملهم للإنسان، وأن أفكار الناس هي تعبير أو انعكاس عن واقعهم المعاش (2)، وقد يسبق الفكر الواقع المعاش، وقد يتخلّف عنه، وهذا يرتبط برغباتِ وطموحاتِ الحامل الاجتماعيّ لهذا الفكر أو المساهم في إنتاجه. إن التنوير يرفض الإطلاق في الفكر، ويؤمن بالنسبيّة العقلانية، أي النسبيّة التي تؤمن بالتطوّر والحركة الجدليّة للظواهر القائمة على أهداف إنسانيّة، فالنسبيّة هنا ليست حركة ميكانيكيّة تنطلق من مقولة :(حركة فكر دائمين) دون توقف ومراجعة وتبدّل، بل هي حركة تاريخيّة جدليّة، ذات طابع حلزوني.
سادساً: أفكار التنوير في سياقها العام أفكار إنسانويّة، إي أنها أفكارٌ تؤمن بالإنسان وقدراته، واعتباره مصدراً لكلّ قيمة.
سابعاً: يؤمن التنوير بالانفتاح، وبالتالي يرفض أيّ قيودٍ على عقلِ الإنسان وإرادته، ويرفض أيضاً، الحدّ من نشاطهما وطموحاتهما الإنسانيّة.
ثامناً: التنوير يؤمن بالروح الاستكشافيّة، واعتبار الواقع مفتوحاً على المطلق أمام إبداعات الإنسان وخلقه.
 *كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العراق في التاريخ – نخبة من الكتاب – ص11 وما بعد.
(2) إن المقصود، بأن الأفكار انعكاس للواقع المعيوش، لا يعني هنا أن الواقع ينتج أو يعكس الأفكار كما تعكس المرآة الشيء مباشرة، فهذه الرؤية ساذجة وميكانيكيّة، بل إن الواقع ينتج الأفكار وفق آليّة جدليّة، يتفاعل فيها الفكر مع الواقع عبر السياق التاريخيّ لعلاقة الفكر مع الواقع. فالواقع يحدّد أو ينتج الفكر نعم، ولكن الفكر ذاته عبر سياقه التاريخيّ، يحوز على استقلاليّةٍ نسبيّةٍ عن الواقع، ويتحوّل عبر حوامله الاجتماعيّة إلى قوّة ماديّة قادرة على تسريع حركة الواقع وتطويره، أو عرقلة هذه الحركة والحفاظ على تخلّف الواقع، وذلك من خلال المصالح الماديّة والمعنويّة للقوى الاجتماعيّة التي تتحكّم في هذا الواقع.

التاريخ: الثلاثاء8-6-2021

رقم العدد :1049

 

آخر الأخبار
توقيع عقود تصديرية.. على هامش فعاليات "خان الحرير- موتكس"     تشكيلة سلعية وأسعار مخفضة.. افتتاح مهرجان التسوق في جبلة السياحة تشارك في مؤتمر “ريادة التعليم العالي في سوريا بعد الثورة” بإستطاعة 100ميغا.. محطة للطاقة المتجددة في المنطقة الوسطى "خان الحرير - موتكس".. دمشق وحلب تنسجان مجداً لصناعة النسيج الرئيس الشرع أمام قمة الدوحة: سوريا تقف إلى جانب قطر امتحان موحد.. "التربية" تمهّد لانتقاء مشرفين يواكبون تحديات التعليم خبير مالي يقدم رؤيته لمراجعة مذكرات التفاهم الاستثمارية أردوغان: إســرائيل تجر المنطقة للفوضى وعدم الاستقرار الرئيس الشرع يلتقي الأمير محمد بن سلمان في الدوحة قمة "سفير" ترسم ملامح التعليم العالي الجديد خدمات علاجية مجانية  لمرضى الأورام في درعا الرئيس الشرع يلتقي الشيخ تميم في الدوحة الشيخ تميم: العدوان الإسرائيلي على الدوحة غادر.. ومخططات تقسيم سوريا لن تمر الحبتور: الرئيس الشرع يمتلك العزيمة لتحويل المستحيل إلى ممكن فيصل القاسم يكشف استغلال "حزب الله" وجهات مرتبطة به لمحنة محافظة السويداء ضبط أسلحة وذخائر معدّة للتهريب بريف دمشق سرمدا تحتفي بحفّاظ القرآن ومجودي التلاوة تنظيم استخدام الدراجات النارية غير المرخّصة بدرعا مطاحن حلب تتجدد بالتقنية التركية