الثورة أون لاين – هلال عون:
ما من شك أنه وفقاً للقوانين الدولية من حق الدولة السورية مطالبة الدول التي ساهمت بالحرب العدوانية عليها بالتعويض عما اقترفته من جرائم بحق مواطنيها وتدمير مؤسساتها وبنيتها التحتية.
وأيضاً وقبل تناولنا لموضوع العودة الدولية إلى دمشق لا بد من الإشارة إلى أنه ربما كانت الدولة الأموية بدمشق أول دولة تجمع العرب بقيادة موحدة.. وفي العصر الحديث كانت سورية أول دولة تقيم الوحدة مع مصر.. وسعت لإقامة وحدة مع العراق، والحزب الذي يقود سورية منذ حوالي ٦٠ عاماً هو حزب قومي، يؤمن بوحدة الأمة العربية.. وكانت قضية فلسطين هي القضية المركزية لسورية، والتي دافعت عنها سياسياً وعسكرياً، عبر دعم حركات المقاومة.. وذلك بديهي لأن فلسطين جزء من سورية التاريخية.
وتبدو هذه المقدمة ضرورية للإشارة إلى مفارقة عجيبة، وهي أن بعض العرب قاموا بإرسال الإرهابيين ودعموهم بالمال والسلاح لتقويض أركان الدولة والمجتمع السوري (أخص دول التبعية لأميركا وأحزاب الدين السياسي في الخليج وبلاد الشام والمغرب العربي).
وفي أثناء الحرب العدوانية علقوا عضوية سورية في جامعة الدول العربية، وهي العضو المؤسس لها، وبطريقة مخالفة لقوانين ونظام عمل الجامعة.. علقوا عضوية سورية التي أسماها الزعيم جمال عبد الناصر: «قلب العروبة النابض».. وبالفعل أصبح العرب من دون قلب، فاستدعوا الناتو لضرب ليبيا ومزقوها.. وأسسوا حلفاً لتمزيق وتدمير اليمن..
وأقاموا أحسن العلاقات مع العدو الذي يحتل أرضهم المقدسة التي وصفها القرآن الكريم بالقول: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله”.
كان بعض العرب أداة رخيصةً إلى حد عجيب ومفجع خلال العقد الماضي.. امتُهنت كرامتُهم بطريقة فريدة في نوعها.. دخلوا في حروب تصفوية بين بعضهم بقيادة أعدائهم وبأموالهم أنفسهم.. وكان أبناؤهم وأمنهم وثرواتهم وقوداً لتلك الحرب، ومع ذلك، وبعد كل تلك الخدمات المهينة خاطبهم زعيمهم (ترامب) على الملأ ، قائلاً: عليكم أن تدفعوا لنا الأموال لنحمي عروشكم!.
في سورية قُتل وجُرح مئات الآلاف وهُجّر وشُرّد الملايين داخل وخارج سورية، وتم تدمير البنية التحتية على أيدي دول العدوان وأدواتها في المنطقة، وعلى أيدي إرهابييهم وطائراتهم تم تدمير جسور وشبكات طرق ومشاف ومراكز صحية ومدارس ومعاهد تعليمية، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، وتم تدمير وسرقة آبار النفط والغاز وسرقة القمح والقطن، كما تم حرق أشجار الزيتون والحمضيات وهي عصب الزراعة السورية، ودمروا المعامل والمصانع وسرقوا آلات تلك المعامل إلى تركيا بواسطة عملائهم من جماعة الإسلام السياسي..
كان بعض العرب يلومون سورية لعلاقتها بإيران وحزب الله اللبناني وبمنظومة الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي السابق ووريثته الحالية روسيا، وكانت سورية تدافع عن صداقتها مع تلك الدول التي تقف في وجه التوحش الامبريالي والليبرالية الجديدة الأكثر توحشاً، وأثبت الواقع والتاريخ أن خيار سورية كان صحيحاً واستراتيجياً.
ففي حين قادت الإمبريالية والصهيونية العالمية وأدواتهما من العرب حرباً قذرة لإسقاط سورية المقاومة، كانت تلك الدول تقف إلى جانب سورية، حتى في المعارك العسكرية، وقدموا شهداء لحماية سورية من الإرهاب ومن دعمه من أشقائها العرب.
كان الهدف أن تكفر سورية بالعروبة نتيجة طعنات الأشقاء لها وقتلهم أبناءها، ولكنها ازدادت إيماناً بعروبتها لإفشال مشروع الأعداء وليقينها بأن المستهدف الأول هو العروبة كمفهوم وكنظرية، كي يعود العرب قبائل متناثرة ومتنافرة، تقودها المصالح الضيقة والعصبيات القبلية، ويحارب بعضها بعضاً، لتتسيد (إسرائيل) على بلاد العرب من المحيط إلى الخليج.
وقد قال “موشي ديان” وزير الحرب الإسرائيلي يوم احتلاله القدس بتاريخ ٧/ ٦ / ١٩٦٧«لقد وصلنا أورشليم، وما زال أمامنا يثرب وأملاك قومنا فيها».
قد يبدو للقارئ أن الكلام السابق كله لا علاقة له بموضوعنا حول موضوع عودة بعض السفارات العربية والأجنبية إلى دمشق، وكسر الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية، تمهيداً لإعادة البناء الاقتصادي والعمراني المطلوب لاستعادة سورية دورها الفاعل في المنطقة.
لكنني أرى أن التمهيد السابق ضروري، بل هو جزء من الحديث عن العودة إلى سورية، لأن قسماً كبيراً من الجمهور السوري الذي دفع الدماء والأرواح والأرزاق لا يريد لسورية العودة لجامعة الدول العربية، ولا يريد لدول الخليج العربية والدول الأوروبية ولا لبقية الدول التي اشتركت بالعدوان، لا يريد لها أن تعود إلى دمشق.
وهذا الجمهور لا يتقبّل، من ناحية النفسية، عودة السفارة التركية مثلاً إلى دمشق، ومن الناحية الأخلاقية والإنسانية والوجدانية فإن هذا المواطن على حق.. والقيادة السياسية تتفهم ذلك وتحترمه، بل وتكبره في المواطن السوري.. ولكن من الناحية العملية فليس من مصلحة سورية وشعبها مقاطعة محيطها العربي والأجنبي، بل مصلحة سورية وشعبها هي في إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع جميع الدول التي تحترم سيادتها وخياراتها.. وعودة تلك العلاقات لا تكون إلا بالتمثيل الدبلوماسي عبر فتح السفارات والقنصليات لنا في تلك الدول، ولها في سورية.
إن فتح السفارات يعني عودة العلاقات التجارية وتدفق الأموال بين سورية وتلك الدول، وقد أصدرت سورية القانون رقم ١٨ لعام ٢٠٢١ بهدف خلق بيئة استثمارية تنافسية لجذب رؤوس الأموال وتوسيع قاعدة الإنتاج، وزيادة فرص العمل، ورفع معدلات النمو الاقتصادي.. فبالإضافة إلى أنه تمهيد لاستثمار رأس المال السوري فإنه تمهيد لتدفق الأموال الأجنبية..
من المعروف أنه في كل سفارة يكون هناك «ملحق تجاري»، من مهامه الوقوف على حقائق الشركات التي يتعامل معها، من حيث قدرتها التصنيعية، وجودة إنتاجها، ومطابقتها للمواصفات العالمية، قبل استقطابها لإقامة مشاريع صناعية في بلده.. ومن مهامه أيضاً دراسة الأسواق في البلد الذي يعمل به وحاجاته وأنماطه الاستهلاكية، والقيود والتسهيلات التجارية، وإبلاغ بلده بها، ليصل ذلك إلى أصحاب القرار والمصدرين ورجال الأعمال.. ومن مهامه أيضاً العمل لإقامة المعارض لمنتجات بلده في الخارج والتسويق لها، بالإضافة إلى تقديم وعرض فرص الاستثمار والدعاية لها، وشرح القوانين الخاصة بها والتسهيلات التي تمنحها للمستثمرين الأجانب..
كذلك الأمر في المجال السياحي تعمل السفارة على استقطاب السياح عبر تشبيك العلاقات بين وزارة السياحة ومكاتب السياحة والسفر في البلدين، والتعريف بأهم المناطق السياحية وأسعارها، وكذلك التشجيع على السياحة الدينية والعلاجية وتقديم المعلومات المطلوبة ونشرها والدعاية لها.
نعود إلى موقف المواطن السوري الوجدانية والأخلاقية للتأكيد على أن موقفه محل إكبار وتبجيل، ويدل على كبرياء وعنفوان وكرامة.. ولكن يجب التوضيح أن إعادة فتح السفارات يفتح الباب للدولة السورية لمطالبة تلك الدول بالتعويض عما اقترفه مواطنوها بحق السوريين، وإن ذلك أيضاً يفتح الباب لنقابة المحامين السورية ولأي محام أو مواطن متضرر أن يرفع دعاوى قضائية ضد أشخاص أو شركات أو مؤسسات في تلك الدول، سواء أكانت الدعاوى في سورية أم في الدولة المعنية، عبر محامين من تلك الدول.
ولا بد من الإشارة إلى أن سورية وحلفها المقاوم في مرحلة جني الثمار بعد صمود الشعب السوري وفشل الحرب عليه، ومن تلك الثمار التي بدأت بالظهور رفع العقوبات الأميركية على إيران، والتي سيتبعها رفع للعقوبات الأميركية والغربية على سورية، لأن حل أو إعادة ترتيب مشاكل المنطقة الذي تعمل عليه أميركا لا يتحقق انتقائياً، بل يأتي ضمن سلة واحدة، وإن بتواقيت مختلفة.
ومن حتميات حدوث ذلك تراجع دور أميركا في المنطقة والعالم، وفشلها في حروبها الخارجية، وخاصة في سورية، حيث ارتفع رصيد روسيا عسكرياً وسياسياً، وارتفع رصيد الصين اقتصادياً وسياسياً بسبب هذه الحرب، وسينتج عن ذلك دور أمني وعسكري فاعل وسياسي واقتصادي أيضاً لدول محور المقاومة (إيران وسورية والعراق واليمن ولبنان).
وسينتهي دور “أرجوزات” وعملاء أميركا، وخاصة الصغار منهم في المعادلات الإقليمية مثل جنبلاط والحريري وجعجع، والمعارضة السورية المأجورة. وسيغيبون عن عالم السياسة عقوداً أو قروناً قادمة.
وقد دعم هذه الرؤية ظاهرة ونتائج الانتخابات السورية وحرب ال 11 يوماً الأخيرة على غزة، التي أطاحت بنتنياهو، والتغيّر الكبير في المزاج والموقف الشعبي العالمي من قضية فلسطين التي عادت بقوة إلى صدارة القضايا العالمية.. وربما يفيدنا في سياق موضوعنا أن نتذكر أن الحرب العالمية الثانية بين دول التحالف ودول المحور دمرت أوروبا، وقتلت عشرات الملايين من أهلها، لكن بعد انتهاء الحرب كان لا بد من إعادة العلاقات بين تلك الدول وشعوبها لإعادة بناء ما دمرته الحرب.. وهذا ما حدث.