يوم الجمعة الماضي، ومع الذكرى العاشرة لغياب شاعر فلسطين الكبير يوسف الخطيب، استحضر ولده تليد رؤية الراحل للراهن بنص بدأه بالحدث: « في مثل هذا اليوم أودعناه في عهدة تراب دمشق، وفي كفه قبضة من تراب فلسطين.. » وختمه بالتمني: «لكن فكرة جميلة تدغدغ قلبي المشتاق لروح أبي.. كم سيكون جميلاً أن أدفن في فلسطين، وفي يدي قبضة من تراب دمشق التي أعشق.. ».
قرأت اسم يوسف الخطيب لأول مرة أواخر الستينيات، فحفظته لبقية العمر. يومذاك كانت قضية فلسطين تؤرجح المشاعر بين يأسٍ صنعه عدوان حزيران، وتحدٍ أوقدت روحه نهضة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإعادة بناء الجيشين السوري والمصري. كان ذلك على مفكرة سنوية تحمل اسم (المذكرة الفلسطينية) دأب الراحل الكبير على إصدارها ما بين عامي 1967و1976 مضمناً صفحة كل يوم فيها حدثاً تاريخياً حدث في مثل ذلك اليوم قبل سنوات قليلة أو كثيرة، يرتبط بقضية فلسطين بشكل من الأشكال. كانت المفكرة، على بساطة فكرتها وصعوبة تنفيذها، تُبقي مقتنيها على صلة يومية بقضية أراد لها العالم أن تدخل مغار النسيان. و الأهم فيها أنها لم تكن تورد الحدث بشكل محايد، إنما مع تعليق بليغ موجز لا تغيب عنه روح نقدية لاذعة، تصب غضبها على نفاق الغرب الذي صنع المأساة الفلسطينية، فيما هو لا يكف عن التشدق بحقوق الإنسان.
قد نجد في السيرة الذاتية للشاعر الخطيب جذور هذا الموقف الجلي من الغرب الاستعماري حين يؤرخ لصرخة ولادته بالقول: « لا أدري ، أكانت صرخة الميلاد التي أطلقتها في صبيحة ذلك اليوم من مقتبل الربيع، مجرد أداء عضوي لتلك الوظيفة الفسيولوجية الكائنة في فطرة الإنسان، أم رجع صدى لصراخ وطن بأكمله، و شعب بأسره، واقعٍ تحت نير الاحتلال البريطاني، و الاستعمار الاستيطاني اليهودي، في حين كانت مآذن فلسطين، و أجراسها، ما تزال تنعي بأسىً عميق (ثلاثة الثلاثاء الحمراء): فؤاد حجازي، وعطا الزير، و محمد جمجوم، وهم يتأرجحون تباعاً في أنشوطات إعدامهم في سجن عكا المركزي، في أعقاب ثورة البراق.. ».
كان لهذا الشكل من التأريخ أسبابه العميقة في مشاهدات الطفل المباشرة لبشاعة الاحتلال البريطاني لفلسطين، و تواطئه مع المستوطنين الغرباء، مثلما حدث يوم اندفع الجنود البريطانيون عند الفجر إلى منزل أسرته في قرية (دورا) قرب الخليل خالعين الباب الخارجي بأحذيتهم الثقيلة بحثاً عن خرطوشة فارغة تودي بصاحب البيت إلى الأشغال الشاقة، أو طلقة رصاص حية قد توصله إلى حبل المشنقة. وأيضاً حين مزقت طائرة حربية بريطانية بنيرانها أحد أبناء القرية. وقد ظل مشهد الجنود البريطانيين في الجوار أثناء الحرب العالمية الثانية يثير في نفسه الحنق من غدر البريطانيين بحلفائهم العرب بعد انتهاء الحرب من جهة، وباستسلام العرب إلى الوعود البريطانية الكاذبة من جهة أخرى. بقي هذا الموقف المزدوج: العداء للغرب المستغل الغادر، والانتقاد الحاد للموقف العربي الذي لا يرتقي إلى مستوى القضية، ملازماً لأشعاره وكتاباته طيلة حياته.
إضافة إلى قيمته الإبداعية والأدبية العالية، كان شعر يوسف الخطيب يلهب حماستنا في تلك السنوات المجبولة من رفض الهزيمة والحلم بالنصر، كما هو حال قصيدة (هــذي الملايين). ومن أبياتها:
تَهِيــجُ بي ذِكَــرُ التـاريخِ جامــحةً
و يَعتريني الأَسَى حولي، فَـيَقعُدُ بي
تَــوَزَّعَتْنــي دُروبٌ لا لِقــاءَ لـهـا :
الــذلُّ في الناسِ ، و العلياءُ في الكُتُبِ
أكـــادُ أُؤمِـنُ ، مِن شـكٍ ومن عَجَبِ
هذي الملايينُ لَيسَـــتْ أُمَّــة العَرَب
لــولا تَشـُـــقُّ سـُـــجُوفَ الليلِ بارقةٌ
يا شُـعلةَ الصبحِ، رُدِّي حالِكَ الحُجُبِ
جسّد يوسف الخطيب في سيرته الشخصية، وفي إبداعه الشعري والأدبي، العروبي الأصيل الذي يستمد من تراث أمته روح التحدي وقوة الأمل والإيمان بالغد القادم. ولعل أفضل ما يعبر عن ذلك قوله:
لي خلفَ هذا الزمانِ أَزمِنةٌ….يَمتدُّ بي في رِحابها العُمُرُ
فاسْتَبْقِني في مَداكَ أُغنيةً….طليقةً ، أَيها الغدُ النَّضِرُ
في النص المشار اليه بداية، يستعيد الكاتب تليد يوسف الخطيب أبيات شعر لأبيه تلخص صلافة المغتصب وبسالة أبناء الأرض. فتبدو مع الوقائع الفلسطينية في يومنا، وكأنها نبوءة:
آتٍ على الدهر خلف القهر إعصار…. دم يصيح ورايات وثوار
ومشرعات جباه سطرت غضباً…. من وعدها النور أو من وقدها النار
حتى يهل صباح لا انتهاء له…. ويستجد وراء الليل إسفار
إضاءات- سعد القاسم