الملحق الثقافي:محمد خالد الخضر:
منذ أن وُجد الشّعر في حياة الإنسان، وهو يقدّم صورة حيّة لواقعه، ولجوانبِ حياته وتحولاته المعيشية، ولأن الشّعر يقدّم المعنى الحقيقيّ للانفعالِ الوجدانيّ الذي يتكوّن عند الشخص، أخذ هذه التسمية، وسمّي سابقاً ديوان العرب.
فالتربية تلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان، وهي جزءٌ من شخصيّته، فلا يمكن أن نشبّه شخصية “امرؤ القيس”، بشخصيةِ “عنترة بن شداد”، فالأول ترعرع بين الغواني، فكان ماجناً، محبّاً للنساء، وهذا ما ألفناه في شعره الذي كشف كثيراً من نزواته وتطلعاته وجوانب حياته.. أما “عنترة” الذي ترعرع شقيّاً وعرف معنى الظلم فكرهه، فقد ظهر في شعره العنفوان، وتجلّت المروءة والنخوة.
هكذا نجد أن الشعر هو الأقدر على كشف شخصية الشّاعر، وتقديم مكوناتها وملامحها، ولا يمكن أن ننكر أبداً، أن شخصية “المتنبي” التي مرت بتطلعاتٍ ومحاكماتٍ كثيرة، هي شخصيةٌ تستوجب التوقف لديها، لما فيها من معرفةٍ ومتناقضاتٍ.. ذلك أنها، ورغم ما امتلكتهُ من نرجسيّةٍ مثيرة المضامين، فإنها تدلّ وفي كلّ بيتٍ من أبياتِ قصائدها، على أن ما يميزها هو العبقرية.
فإذا قرأنا بيت المتنبي: “وللنفسِ أخلاقٌ تدلُّ على الفتى/ أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا؟”..
وقوله: “أصادقُ نفس المرء من قبلِ جسمهِ/ وأعرفها من فعلهِ والتكلّم”.
إذا قرأنا هذين البيتين فقط، نشعر بأنهما يدلان على قوّة الحدث، وفراسة الشخص، وإدراكه الحاذق.. فهما إشارة وعلامة على قيمة معنويّة تمتلكها النفس، ومن الواضح تماماً، أن “المتنبي” عاش حياته متحوّلاً متبدّلاً، وفق الحالة النفسية التي كان يعيشها، وما تتطلّبه ذهنيّته، فها هو يقول لـ “كافور”:
“وما كنتُ ممّن أدركَ المُلكَ بالمُنى/ ولكنْ بأيّامٍ أشبنَ النواصِيا”..
أمام هذا البيت، نجد ارتفاع وتيرة الانفعال الوجدانيّ عند “المتنبي”، وما يمتلك هذا الوجدان في انفعالاته، هو نوع القيمة والرغبة وماهيّة المحبة، والبنية السلوكيّة الأخلاقيّة المكونة لذهنيّته، ويدلّ على ذلك، قوله للشخص ذاته: “لا تشتري العبدَ إلا والعصا معه/ إن العبيدَ لأنجاس مناكيدُ”.
لعبت المتناقضات الاجتماعيّة والتربويّة، دوراً مؤثّرا في عبقريّة “المتنبي” وشخصيته، عندما يقرأ المرء هذا البهاء المذهل، ثم يقف أمام حالة صاعقة أخرى، ترهقه الفاجعة وهو يقرأ قول “المتنبي”:
“وما الدَّهرُ إلا من رُواةِ قصائدي/ إذا قُلتُ شعراً أصبحَ الدهرُ مُنشدا/ أجِزني إذا أُنشِدتَ شعراً فإنّما / بشِعري أتاكَ المادِحونَ مُردّدا”.
وهو الشّاعر ذاته، الذي يقول أيضاً:
“لَيتَ أَنّا إِذا اِرتَحَلتَ لَكَ الخَيـ / ـلُ وَأَنّا إِذا نَزَلتَ الخِيامُ”.
فأيّ بناءٍ نفسيّ يملك هذا الشاعر، الذي يحني رأسه لممدوحه، ويتمنى أن يكون الخيل الذي ينقله أنى ارتحل؟!..
ثمّة أمر آخر، إذا أردنا تجاوز مدحه لـ “سيف الدولة” وغيره، نقف عند تناقضه الفادح أمام “كافور الاخشيدي” فهو الذي قال له :
“إذا كسبَ الناس المعالي بالنّدى/ فإنّكَ تُعطي في نداكَ المعالي”.
وبعد أن خاب ظنه بـ “كافور” كانت العاطفة ذاتها، والموسيقا ذاتها، والتفاعل والانفعال بذات الطريقة، فكذّب نفسه وقال :
“ومِثلكَ يُؤتى من بلادٍ بعيدةٍ/ ليُضحك ربّاتِ الحِدادِ البَواكيا”.
وقال أيضاً له: “قضى الله يا كافور أنّكَ أوّل /وليس بقاضٍ أن يُرى لك ثاني”.
في واقع الأمر الثقافيّ، الذي يسير بالشخصية العربية وغيرها، غالباً باتجاهٍ واحد، نجد أن المتلقّي بات رهين الدعاية لا أكثر ولا أقل، فالقراءة والثقافة، لا تحتاجا إلا للاطّلاع والتعارف والحضور، وهذا بعض ما ألِفتهُ في المراجع التالية: ديوان المتنبي الأعمال الكاملة، المتنبي في ضوء الدراما لـ “ممدوح عدوان”، قال المتنبي لـ “باقر ياسين”، ولغز المتنبي للدكتور “نزار بريك هنيدي”، والمتنبي كما أراه، لـ “نسيم الرحبي”.
التاريخ: الثلاثاء6-7-2021
رقم العدد :1053