الملحق الثقافي:أمجد سيجري:
تمنحنا الأساطير القديمة، التي وصلت إلينا من خلال تدويناتٍ أثريّة تمَّ العثور عليها في أماكنٍ مختلفة من العالم، وخصوصاً في منطقتنا السورية – العراقية، طريقاً مهمّاً لفهمِ تطور معرفة البشر لأنفسهم، وأزماتهم وتجاربهم وتطلعاتهم وانشغالاتهم، التي مرّوا بها عبر هذا التاريخ الطويل. على سبيل المثال، نجد في كلّ الثقافات، أسطورة عن الجنّة المفقودة التي عاش فيها البشر خالدين، في حالةِ اتصالٍ قريبٍ ويوميّ مع الآلهة، منسجمين مع الحيوانات، ومع الطبيعة.
كان لهذا العالم مركز ممثلاً، إما بشجرةٍ وإما بجبلٍ وإما بمسلَّةٍ عمودية، يستطيع الناس من خلال تسلقها، الوصول إلى عالم الآلهة.. بعد هذا، حصلت كارثة ما، أدّت إلى قطعِ التواصل بين العالمين، وقد عُبِّر عنها من خلال انهيار الجبل، أو اقتطاع الشجرة، فأصبح الوصول إلى السماء أمراً صعباً، أو مستحيلاً..
من خلال هذه الحكاية، نجدُ مدلولات قوية تشير إلى رحلة الإنسان عبر تاريخه الطويل، وانتقاله من عالمٍ اعتبره في الماضي إلهيّ، مملوء بالراحة، يحصل فيه على الطعام والشراب والمأوى، دون عمل أو تعب، وقد عُبِّر عنه بالمقدّس، إلى عالمٍ جديد موحش ومؤلم، يحتاج بذل الجهد والعمل للوصول إلى متطلباتِ الحياة، وهو العالم الدنيويّ.
إنه ما جعل معظم أديان وميثولوجيات المجتمعات القديمة، تسعى وتتوق للرجوع إلى تلك الجنة الضائعة، تقدّم الأساطير والحكايات التي فيها من التعاليم الدينية، ما يوضّح طرق العودة والرجوع إلى العالم النموذجيّ والمثاليّ، عبر مجموعةٍ من الممارسات الطقسيّة والدنيويّة، التي تحدّد تعاملاتٍ يوميّة، اعتُقدَ أنها تعبّر عن صلاةٍ أو حالةِ اتصال مع الآلهة، وأنها تمنح الإحساس بالمشاركة في الوجود الإلهي.
لقد علّمت الميثولوجيات الأولى الإنسان، أن ينظر من خلال عالمه الملموس، إلى عالمٍ ماورائي، خفيّ ومبهم ومملوء بالأسرار، فلم يفصل في الحقيقة، بين ما هو حقيقيّ وما هو ماورائيّ، كما يفعل كُثر اليوم.. مثلاً، عندما كان ينظرُ إلى الحجر، لم يكن يراه مجرّد صخرةٍ جامدة لا قيمة لها، بل كان يراه مشبعاً بالقوة والصلابة، ورمزاً لوجودٍ مثاليّ، يعبّر عن الخلود بشكلٍ يخالف وجوده الهشّ المؤقت، ما جعل الحجر في العالم القديم، تجسيداً للقداسة في أماكنٍ مختلفة من العالم.
كذلك الأشجار بنوعيها، دائمة الخضرة التي تعني الثبات والخلود، ومتساقطة الأوراق التي تدلّ على التجدّد، عبر دوراتِ الموت والولادة الأبدية، وبالتالي كانتا تمثيلاً للقدرةِ الحيّة، على التجدّد والخلود الذي حرم منه البشر .أيضاً، تناقص واكتمال القمر، فقد رأوا في ذلك شاهداً آخر على قدرات التجدّد المقدسة، والمتمثّلة في الولادة والموت والقيامة .
ولا ننسى السماء، فقد منحت الإنسان التصوّر الأول عن الألوهية، فعندما حدّق الإنسان في هذه السماء اللانهائية، والموجودة بشكلٍ منفصل عن حياته، تولّدت لديه أفكار وتخيّلات منحته مادة مهمّة، تم ضخّها في تجربته الدينيّة.. فالسماء الواسعة المبنيّة فوقه، لا يمكن استيعابها ولا الوصول إليها، كما أنها أزليّة، تمثّل جوهر التعالي عن العالم الأرضيّ، فلا يمتلك البشر أيّ طريقة للتأثير عليها والتبديل أو التغير بها، كما أن الظواهر التي تحدث فيها كالبرق والرعد والخسوف والكسوف، والأمطار والرياح والشهب والنيازك، كلّها تشير إلى عالمٍ آخر، له حياته الديناميكية الخاصة التي جعلت البشر يعتقدون، بأنه عالمٌ إلهيّ، ومسكنٌ للآلهة الذين يحكمون عالمهم.
لذلك بقيت السماء، رمزاً للتبجيل والقداسة لدى الإنسان، عبر تاريخه الطويل، وعندما تطورّت حياته، بتطوّر مداركه ومهاراته، تبيّن له أن الميثولوجيا ستفشل لو اقتصرت على حقائقٍ متعالية وغير ملموسة، فعمل في البداية على شخصنة السماء، وبدأ يحكي قصصاً عديدة عنها، معظمها تصفه وتعتبره إلهاً أكبر، فاحتوت كلّ المعابد القديمة على “إله السماء” الذي تمّ اعتباره السبب في الوجود، وتمّ تقديم العديد من الأساطير عن أصل الكون، وعن طبيعة هذا الإله الذي لا يمكن تمثيله بصور، وليس له مقام أو ضريح، والمنزّه عن كلّ شيء، والذي ينحني الناس له في صلواتهم، ويؤمنون بأنه يراهم ويعاقبهم على أعمالهم السيئة.
في الحقيقة، كلّ هذه التصوّرات الأوليّة، كانت فاشلة بالنسبة للإنسان الأول، محدود المدارك، لأنها لم تلامس حياته الاعتياديّة، ولم تخبره شيئاً عن طبيعته البشرية، ولم تساعده على حلّ مشاكله الدائمة، لهذا كان هذا الإله غائباً عن حياة الإنسان اليومية، مما جعل أهميته تتضاءل تدريجياً، مع بروزِ بعض الآلهة الأبناء، وتقترب مهامهم ووظائفهم من تطلعات وحاجات الإنسان اليوميّة، كما حدث مع إله السماء في بلاد الرافدين “أنو”، حين برز ابنه، إله الرياح والعواصف “إنليل”، وكما حدث مع أبو السماء الكنعاني “إيل” و الإله “بعل” إله البرق والعواصف الذي حيّده ابنه أيضاً، وكما حصل مع الإله اليوناني “أورانوس” الذي حيّده وخصاه ابنه “كرونوس”.
إن تخفيض مرتبة الآلهة العالية المتمثلة بالسماء، لم يفقدها قيمتها بالمجمل، بل ظلّ العلوّ والرفعة رمز الألوهيّة الأسطوري، وسمة من سماتِ الروحانيّة، ففي الحركات والتيارات الفلسفيّة الروحانيّة، والغنوصية الصوفيّة، وديانات الأسرار، ظلّ الإنسان يسعى بشكلٍ مستمر، نحو الصعود والارتقاء، ومن ثمّ التوحّد بالإله، وابتكر شعائر وتقنيات للوصولِ إلى حالةِ تركيزٍ ونشوة روحيّتين، مكنتاهُ من تطبيق قصص الصعود، والارتقاء إلى حالةٍ أعلى من حالته الدنيويّة، وقد سمعنا على مرِّ التاريخ، الكثير من القصص حول شخصيات دينيّة ارتقت إلى السموات، وبمستوياتٍ متعدّدة من مراتب الوجود، حتى وصلت في النهاية إلى وجود أسمى، متمثّل بالمجال الإلهيّ، ولا ينبغي قراءة هذه القصص حرفيّاً، بل يجب قراءتها نفسيّاً ورمزيّاً.
إذاً، علينا أن نفهم الحكاية بشكلٍ رمزيّ، يعبّر تماماً عن كون هذه القصص تمثل اخترقاً لمستوى جديدٍ من الكينونة الروحيّة، أي إن هذه الشخصية قد تركت ضعف الوضع البشري وراءها، وارتحلت بعيداً داخل عالم القداسة الواقع فوق تجربتنا الأرضيّة، بالتالي هي تمثّل توق الإنسان إلى التعالي المتجسّد بالسماء، وتجعله يشعر بإمكانيّة الهرب من الوضع الإنسانيّ الضعيف، والارتقاء إلى ما يقع وراء المادة، ولهذا السبب تكون الطرق العموديّة مقدسة في كثير من الديانات القديمة كما أسلفنا، فالجبال مقدّسة، والشجرة مقدّسة، والمسلّات والأهرامات المصريّة مقدّسة، والزقورات الرافدينية مقدّسة، فهي المسار العموديّ الممتدّ من الأرض نحو السماء، والوسيط بين الأرض والجنّة والطيران، لا يعني أنها رحلة بالجسد، ولكنها نشوة روحيّة يُشعر من خلالها، أن الروح فارقت الجسد وارتقت.
التاريخ: الثلاثاء6-7-2021
رقم العدد :1053