الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
في رواية “أبناء الحياة”، يتناول المفكر والأديب اللبناني “دريد عوده”، المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، كحدثٍ تاريخيّ حقيقيّ.. ذلك أنه يتحدث عن اجتياح العدو الإسرائيليّ لـ “لبنان”، في العام 1982، وعن تصدّي أبنائها المقاومين لهذا العدو، عبر عملياتٍ استشهاديّة بطوليّة، أرّخ وقائعها الآنيّة.. الوقائع التي وثّق لحظاتها وأحداثها بعين الحقيقة الرائية، وبصورٍ ألهبت باتّقادها وشظايا رمادها، وجدانه الوطنيّ والإبداعيّ، فاشتعلت مفرداته، ولاسيما في وصفها للعمليات التي قام بها المقاومون، والتي لم يتخيّل منها إلا القليل جداً، لطالما كان أغلبها، بـ “اللحمِ الحي”.
هذا ما تتحدّث عنه الرواية، التي قدّم لها “عوده”، قائلاً عن المادة الأساس التي اعتمدها فيها:
“المادة لم تكن الخيال، بل أشلاء المقاومين.. والحق يقال، لقد كتبت “أبناء الحياة” بدمهم، وبدمي أيضاً، وبدموعي.
كلّ ما لديك مقاوم يقود سيارته ليفجّر نفسه في قوات الاحتلال؛ ليس له عنوان، ترك فقط رسالة خلفه تقول: “أنا الشهيد فلان…”، لا تعرف إلى أين هو ذاهب، تعرف وجهته فقط، لمّا تتناثر أشلاؤه، عنوانه إذاً الأثير والأرض.
عندما تسمع هؤلاء، وغيرهم من عشرات الاستشهاديين، لأي حزبٍ أو فئة انتموا، لا تعود لخيالكَ القصصي الرحب أيّة قيمة، أمام تلك القامات العالية الرحبة، رحابة الزمن واللانهاية.
يصير عليك أن تصغي لكلماتهم العفويّة، باللغة الدارجة البسيطة التي لا تنميق فيها، لأن أشلاء الجسد ستكون في الغد أجمل الكلمات؛ ويصير عليك أن تتأمّل وجوههم الطيبة، كأنّك ترى وجهك في مرآة أرواحهم الصافية؛ ويصير عليك أن تبكي فيهم ربيع الشباب، فتغدو دموعكَ قطرات الندى على الفجر الذي تحيكه لهم في سكينتك العميقة؛ ويصير عليك أن تحبهم، أن تعشقهم، فتتمزّق معهم بالجسد والروح، لمّا تتفجّر أجسادهم وتتناثر أشلاؤهم بين قوات الاحتلال وآلياته”.
إنه ما أنصت له وكان سبباً، في جعل الأمانة التاريخيّة مداده. كيف لا، وهو يرى أن مهمّة الكاتب الحقيقيّ، أن يمتشق قلم إبداعه بضميره ومسؤوليّته وأخلاقه؟.. أيضاً، بأنه واجبٌ مقدّس، لطالما قدّم أبناء الحياة ما حمّله مسؤوليّة مضاعفة، تكتبُ بالوجدانِ الوفيّ:
“قدّم لي المقاومون والمقاومات، أجسادهم وأجسادهن مادة تاريخيّة لا تموت. لقد كانوا أبناء الحياة بحق؛ كالسنابلِ المنحنية المنكسرة في بيدري، قدّموا لي حبات القمح المباركة، أشلاء أجسادهم، فصنعت منها طحيناً وفيراً، وعجيناً طافقاً، ثم خبزاً في نارِ ذاتي العميقة، لأقدّمه على مأدبة أبناء الحياة”.
يرتقي الأبطال، فيُعجزوا دور الخيال، ليبقَى منحصّراً في محاولةِ لملمةِ الأشلاءِ المضحّية، بصورٍ تُبقيها حيّة لا منسيّة.. الصور التي قد تصفرُّ وتتآكل في أرشيف الصحف والمجلات، وقد يصيبها التقادم في حكايا الناس وقصص الحياة. لكن، لابدّ أن تبقى متجدّدة وترصّع التاريخ والذاكرة، بكلّ ما يجعلها تتألّق وتتجدّد وهي توثّق، ما وثّقه في قوله:
“ليسوا من الوافدين على السجاد الأحمر، ولا من الجالسين في المقاعد الأمامية المخملية.. هم بسطاء، مقاومون على الجبهات، يفترشون الأرض، الصخرة وسادتهم ومقعدهم، دمهم سجاد الأقحوان الأحمر، وهم لا يحملون هويات أو بطاقات تعرّف بهم، فالأرض هويتهم، ودمهم هو من يعرّفهم”.
هكذا وصفهم، وهي حقيقتهم، حتى في الومضات التي تخيّلهم فيها، فعاشق ألحان الحياة، يأبى أن يسمع إلا المتصاعد حبّاً بمعانيها. يأبى إلا أن يراها مرافقة للضوء، بدءاً من عمقِ الأرض حيث تكمن حنجرة عاشقها، وصولاً إلى السماءِ حيث تراتيلُ البقاءِ، أبديّة في تجدّدها.
حتماً هو الخلقُ، ووحدهُ الكاتب الذي يحيا في شخصيات، قادرٌ على إعادة إحياءِ أبطاله.. يرافقهم ويقيم في دمهم، ويقرّر أن يصير مثلهم، فيتشظّى وتتناثر أشلاء ما يكتبه، وتنزفُ دماً يضمّخ العنفوان بما يؤلّهه.
لاشكّ أنه ما جعل الرواية خالصة لوجهِ الوطن، ووجهُ الوطن مشرقٌ، إشراقةَ المشهدِ الذي لا يُمحى أبد التاريخ والسنين.. جعل مفرداتها أيضاً، يقظة ولا تغفو، كيقظة أبطالها استعداداً للعرسِ الذي زُفوا فيه شهداءَ مقاومين.
ترافق مواكبهم، تنصتُ لوجيب أرواحهم.. تشعره وجيبك الوثّاب ولا يخاف، وتتوجه معهم بعد أن تسكنهم، إلى حيث اللانهاية، وعبق الأجواء والفضاء، بالدمِ والحرف، مقدّسا الغاياتِ والأهداف.
الغايات التي سعوا لتحقيقها، شريفة في مضيّها إلى مواجهة عدوّ أرضهم، بكلِّ شظيّة من شظايا جسدهم.. بالدمِ الوقورِ في انسكابه روحاً ونفساً وهدفاً، ما أشبههُ بهدفِ الحرف الذي رافقهم وتعطّر بهم، وانسكب يرتّلهم:
“تلمس أجسادهم وقد صارت كتلَ لهب، تحترق يداك، وقلبك قبلهما، ثم تحسُّ بالدفء، دفءُ الأشلاء وقد صارت بذور حياة تخلع قشورها تحت الشّمس، وتتفتح براعم وسنابل.
تنتصب أمامك القامات الناريّة، المشتعلة كالدوالي الخريفية، ينسكبُ الدم خمراً في كأس الحياة، فتتذوّق طعمها الحقّ بالشهادة.. حواسك الداخلية تتفتّح.. إنه حديث الروح للروح، يحدّثك الشهيد عمّا كان يجول في فكره، تتفجران معاً، ثم يكون الصمت.
ميلادك يصير ميلاده، وسنوات عمره تصير جسر الكلام بين روحك وروحه”.
كلّ هذا، مجرّد مقدّمة غنيّة جداً، وتكادُ لا تنتهي، في صلواتها المبدعة والمُودعة، تفاصيلها حقيقة لدى “أبناء الحياة”.. لدى التاريخ، الذي تُفرض عليه القصص العظيمة، طالتْ أم قصرت، أن يكونها ولا يخونها.. تماماً، كالروائيّ الذي يمضي منها إليها، متسلّحاً بروحٍ “متأملة، خاشعة، صامتة، فيها خفر”، وبـ “عيون غير سافرة، لترى حقّاً ما لا يُرى”.. روحُ “عوده” المشحونة بطاقاتٍ خلاّقة واستثنائية، وعيونه المضيئة والرائية:
“عندها، وعندها فقط، يُشقُّ حجاب هيكل الروح، ويتم لك الكشف، فتشعر أن روح المقاوم الشهيد تريد أن تحدثك، وأن تفتح لك مدينة الأسرار”..
لاشكَّ أنها رؤية صوفيّة أو روحيّة، اعتبر “عوده” بأنها “إضافة جديدة إلى الرواية التاريخية، القريبة بطبيعتها من “أبناء الحياة”، وبأن في هذا الجانبُ “بحرٌ واسع، بل هو بحرٌ خلف البحار جميعها، وخلف الريح، وجميل أن تحمل شراعك ومجدافك إليه، وإذا عرفت كيف تبحرُ بصمتٍ بين المدِّ والجزر، سوف ترى منارةً تضيء لك في البعيد، وهي منارة الروح”.
لأن هذه المنارة، كشفت مالا يمكن أن يكشفه إلا المتبصّر بما رأته من “أبناء الحياة”، نترك الرؤى الأقدر والأكثر قدرة على الإضاءة، للأديب الذي استدلّ على أبطاله المقاومين بكاشفها، فشعر بعد أن رافقهم وتشظّى مثلهم، بأن حياته وكلماته قد أصبحتا، وبعد مواكَبتهما لقيمِ الشهادة بأمانتها ودقّتها:
“تصبح حياتك ذات قيمة إذا لبست كفن الشهادة؛ حلة ربيع الأرض، وتصبح كلماتك ذات قيمة إذا لبستْ كالفينيق لحن النار، وصارتْ تتكلم لغة الشمس.
تريد أن تتواجد معهم في بقعة الضوء، تأخذك أنت الحيّ غيرة حارقة من موتهم، تريد أن تكون منهم لتحيا حقّاً، فتلبس جسدَ مقاومٍ في الرواية.. مقاومٌ هو منهم، وهم منه.. هو الصلة بينك وبينهم.. هو جسر السكينة الحاكية بين روحك وأرواحهم.. هو جسر الألوان بينهم، وبين غيرهم من أبناء الحياة.. هو طريق الشمس إليهم في مسالك النجوم”.
التاريخ: الثلاثاء6-7-2021
رقم العدد :1053