«مراوغاتُ الفتى الهامشيّ».. بعشقٍ مبتدؤه بيروت وخبرهُ في الشّام

 

الملحق الثقافي:ألوان ابراهيم عبد الهادي:

جوعٌ شَبق برائحةِ الحبق، يحمله الشاعر بين جنباتِ قلبه، وبلوعةِ الوجع التي ترثيه الحجارة من شدّة خطبه، وهو يقف على قبرِ أمه، والظمأ يلوكه، ودأبه الاحتراق وجمر امرأة الخصبِ التي يُسكر نبيذها.. “بيروت”.. متمثلة بقصيدةٍ “من يوميات مهاجرٍ إلى بيروت”.. قصيدة الشاعر اللبناني “محمد زينو شومان”، الذي يشتعل في التهامِ رغيفٍ ساخن، يسدُّ رمقه المعتّق والغائر في الروح.. يشبّه “بيروت” بتفاحةِ الخطيئة، فهي مقصده ونشيده:
“ومالَ عند العصرِ صاحبي بِصُرَّةِ الحقولِ والأمطار/ بيروت.. قالْ: “تفاحةُ الخطيئة/ يجيئها الطفار من أقدارهم/ مع هبّة الظروف والألم”.
إنها المرأة الغانية التي تُوقع من يقصدها في غرامها، وترى عاشقها يتراقص في شوارعها وأرصفتها حدّ الثمالة، متخبّطاً في عذاباته وآلامه قائلاً:
“وكلّما توجَّع الصفصافُ في الجنوب/ هبَّ إلى المشجبِ صاحبي/ وراح كالملدوغ عن ثوبِ القرى/ ينفِّضُ الصّداعْ”.
يبدو واضحاً تعلّق الشاعر بالأرض، من خلال صوره الكثيرة: “ حنين القمح، ساق زيتونة، سنابل الأضلاع، طواحين الأبد، بصرة الحقول والامطار، زهرة الكباد، المقعد المهجور، وقد أسرت بقلبي غيمتان إلى الجنوبِ إلى الجنوبْ”.. يتّحد بمشاعره مع ما يعتصره من فرحٍ وحزنٍ وشجن، يشرق في حلوله وغيابه وجلده، على مواجعه وهواجسه، ممثّلاً تلك بالنخلة التي تصبر على الزمن والأمكنة، والأحوال:
“إذا خرجتْ ناقةٌ من صخورِ العلقْ/ بدا قبسٌ لي على نخلةِ الحال”.
يتصبّر، حتى إذا غافله الزمن، وتساقط في عجلته كلّ شيءٍ جميل ومفرح، يخطر في باله أن يعاند الأقدار، لا يبالي بما يحصل، رغم محاولته قطف ما يغدق من رطبٍ وأجواء هانئة ومستقرّة يحلم بها، ففي “رحيل في كلام العشب”، يظهر ما يراوده من أوجاعٍ لا يشعر بها سواه، فيقول:
“إني مددتْ يدي لأخطف آخر الأغداق، عن نخلِ السكينة”..
يتأمّل عنب المنام والعشق يعيث به، طالباً دربه في أيّ شارعٍ وأيّ حقل، علّه يشعل السماء من جذوة القلب.. يشعلها زهوراً واخضراراً وتألقاً. هذا الحب أسبل قمح الغلال، وهذه الرياح تعنّ وتصفر من لوعةِ امرأةٍ، وصرخة أمٍ، وشهيق تصطكُّ له الضلوع، فيرنو إليه من الذاكرة قائلاً في “خروج العاشق”:
“أحبّك من سرَّة الباب وأرنو إلى نخلةِ الذاكرة/ وأسري إلى حرفي في الحصار الطويلِ الطويلْ”.
ينتفض في قصيدة “مراوغات الفتى الهامشي”، نفض القميص المدمّى الذي أفقده صوابه على باب حانةٍ، دفعته إلى التهلكة، بعيداً عن الهدوء والقول: “ليسَّاقط البرقُ فوق فؤادي/ فيحيي المواتْ”.
أيضاً، وفي “سليل الصحارى” يتماهى في هذي المدينة الغافية على عربدةٍ حالمة وحزينة، المدينة التي أبى اللجوء إلا إلى النصّ الذي يصفها، كما لو أنها “عريشة الشجن”:
“وأرى النخيل كأنّه في سكرهُ يبكي/ أهزُّ بهِ/ فتنهمرُ القصائد ليلتين على الجياع..
“سيمرُّ بي ركب المجاعة/ طائري مازال في عنقي/ وقد أسرت بقلبي غيمتان إلى الجنوب/ إلى الجنوب “..
إنه الارتباط بأرضه، والحنين المخبوء في ثيابه، حيث تتغلغل المدينة في هواجسه وقلقه وأفكاره، قصيدة “مثل الهبوط”، إضافة إلى القبس القرآني “لوَّح بقمصانِ الهوى يُبصرْ أبي/ بعد الرمدْ”، إلى “لوّح بها/ تسَّاقط الأشواق كمثرى على وادي الشآمْ”..
وفي أخرى يقول: “أمدُّ يدي/ لأقطفَ حبّتين من البلحْ/ عن فندِ أشواقي فينتفض النخيلْ”.
أما في قوله على عتبات القصيدة: “أقول لأقراط أمي: السلام على الصابرين/ أهزُّ بجذع فؤادي/ ليسَّاقط التمرُ شوقاً على ركبتي قرطبه”، فيظهر جليّاً الاقتباس والتنصيص القرآني، في “أهزّ بجذعِ الفؤادِ”، حيث يشبّه فؤاده بجذع النخلة التي تساقط رطباً شهيّاً، كما يشبّه “إينانا” ورقصة الوصال، بالنخلة العاتية التي تختبئ بها فوضى الهواجس والنزوات، وهبوب ملاحم الخصوبة وحزن الأرض قائلاً:
“ستلوذ إينانا بنخلتها ويندلع الظلامْ/ أدنو قليلاً منكِ/ بوذيّاً يطوفُ بنارهِ/ انتبهي إلى شبقي المشعشع/ حَلْمة تنسلُّ في كفّي لتسقط من صلاة النخيلِ/ إينانا هبوب الملحمة..”.
ينحو في أشرعة قصائده، بعصا فيلسوفٍ أضناه دربه وأعاصيره، متسائلاً في “حارس الظلّ”:
“ماذا سيحدث لو تركتُ لمخلبِ الإعصار طير الفلسفة؟/ وشربت حتى فاضت الصحراءُ من حبرِ الندامهْ/ ماذا ستعصر في مآقيها غمامهْ/ لو جئت أحياناً بمنخلْ/ ومضيتُ أنخل مثل طحّانٍ تراب المعرفة؟.”.
تراه منهمكاً في قصائده، يولي وجهه وقلبه شطر الشام، قائلاً في جمرة الصعاليك: “أوجِّه قلبي إلى نخلةٍ في أقاصي المنامْ/ فيسري بٌراق الجوى بي إلى غوطةِ الشام/ يا صاحبي لا تدعني لريح الشتات/ أقلِّب وجهي ارتياباً بكل الجهاتْ “..
وتمدُّ الآلام أجنحتها في مساحاتٍ شاسعة في رؤياه، مستلهماً شعره من قبور الشهداء، ففي قصيدة “إلى شمس قانا” يقول:
“سلاماً نوافذ قانا/ هي الآن رؤيا تراودني شبه متَّكئ/ فوق جوعي/ أراني أعاقر غمّاً/ وأعصر من عنبِ الروح حتى الثمل/ ..وأبصر طيراً يحطُّ على رأس أمي ويأكل خبزاً/ فهل من يؤوِّل رؤيايَ؟.. سلاماً مدافن قانا”…
وعن النوائب التي تحلُّ بصغار المخيم في “حجر الشفاعة” والصمت المطبق عند الأخوة العرب، يقول: “فتستلُّ من ضلعها رطب الوجد مريم/ وتخرج من شارعٍ يتفرَّعُ من نخلةٍ ملءَ صدري/ وتمضي إلى عوسجه/ لترضع جرح السماءْ/ فينشق برقٌ للحجارة/ ومن راحتيها يطير لقاح الهوى والغضبْ/ هي القدس تُشوى/ على حبل سرَّتها في وضوح الجريمة/ وما في المناحات إلا اعتصار المآقي وندب العزيمهْ/ وما جئت أنكأُ صمت العرب..”..
يؤلم الشاعر هذا الخواء في الهممِ، والنفاق والخداع من الأصدقاء الذين غرقوا في نهمِ الثراء والفحش، وعقمت القيم عندهم، وانصرفوا عن همِّ المصائر إلى الأهواءِ والرياء، ففي قصيدة “الأبواب الثمانية” يحاول أن يستنهض عرس القيامة، وفي “طواحين” متضمنة طاحون الحروب، طاحون المنايا، طاحون الامتثال، طاحون التاريخ، طاحون الخواء، يدميه هذا الكمّ من الزيف الذي يطحن الحياة ويغيّر ملامحها. وفي “مرثية الرغبات الميتة” يطغى الحزن عليه وهو ينادي والده:
“محزونٌ يا أبتي.. محزون/ ماذا يرجى من نخلٍ والعهر لقاحْ؟/ لصٌّ يصطادُ اللقمة من حلقِ الجائع/ هل هذا إنسانْ؟”.
وفي قصيدة “أميركا وحريّة الدجاج”، يصف أميركا بأنها ماكرة وكاذبة، ولم تقدّم عوناً لغريقٍ إن لم ينحنِ لها راضياً، ليكون ما يختم به ديوانه، قصيدة “الوصية”، وهي في ستّة مقاطع، يستنكر فيها الفحش في كلّ شيء، ويستبعد ويستقبح الركض وراء المرابين، وفيها يوصيه أبيه:
“يا بنيّ.. غريبٌ هو الصدق في عالمٍ/ لا وريث له/ غير نسلِ الطواغيتِ والأغبياء/ يا بنيّ لسوفَ ترى ما اقشعر له قلمي ودمي/ يا بني اتئدْ .. اتئدْ..”.
قصائدٌ معجونة بالألم والوجع، لما يحدث من ظلمٍ وفسق وزيفٍ، يستنهض فيها رحيق الأمل في بلسمة الجراح، التي يئنُّ تحت وطأتها الكادحون، ويصرخ رفضاً لما يحصل من قهرٍ ونزيفٍ ودمار لأبناء شعبنا، وخصوصاً ما يحصل في الجنوبِ، من بطشِ العدو وشروره.
ديوان “مراوغات الفتى الهامشيّ”.. الطبعة الثانية. إصدار دار الفارابي بيروت، يقع في ٢٠٥، ويتضمّن سبع وخمسين قصيدة ..

التاريخ: الثلاثاء6-7-2021

رقم العدد :1053

 

آخر الأخبار
تصاعد إصابات المدنيين بريف إدلب تُسلط الضوء على خطر مستمر لمخلفات الحرب من الانغلاق إلى الفوضى الرقمية.. المحتوى التافه يهدد وعي الجيل السوري إزالة التعديات على خط الضخ في عين البيضة بريف القنيطرة  تحسين آليات الرقابة الداخلية بما يعزز جودة التعليم  قطر وفرنسا: الاستقرار في سوريا أمر بالغ الأهمية للمنطقة التراث السوري… ذاكرة حضارية مهددة وواجب إنساني عالمي الأمبيرات في اللاذقية: استثمار رائج يستنزف الجيوب التسويق الالكتروني مجال عمل يحتاج إلى تدريب فرصة للشباب هل يستغلونها؟ تأسيس "مجلس الأعمال الأمريكي السوري" لتعزيز التعاون الاقتصادي بين دمشق وواشنطن تسهيل شراء القمح من الفلاحين في حلب وتدابيرفنية محكمة سوريا تلتزم الحياد الإقليمي وسط تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران مدينة طبية في إدلب..خطوة جديدة لتعزيز القطاع الصحي تفاصيل جديدة لـ "وول ستريت جورنال" .. هكذا نفذ الموساد عملية معقدة في قلب إيران بيدرسون: المرسوم 66 خطوة مهمة توافق الإعلان الدستوري على توقيت اقتصاد سوريا.. خبيران لـ"الثورة": من أراد النجاح فعليه أن يضبط ساعته على عجلة مستقبلها تراجع عدد السوريين المسجلين وفق الحماية المؤقتة في تركيا لجنة لدراسة الصكوك العقارية لعقود الإيجار.. ومحال الفروغ قاب قوسين أو أدنى من وصولها للحل معبر البوكمال .. تعزيز لعراقة العلاقة الثنائية والارتباط الاقتصادي مع العراق اكريم لـ"الثورة": سوق ... مقتل "شمخاني" ضربة موجعة لـ"عقل إيران الاستخباراتي" في سوريا  وزير الزراعة: تحديث الروزنامة الزراعية شهرياً ومصلحة المزارع أولوية وطنية