أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي
في ظل التصعيد غير المسبوق بين إسرائيل وإيران، والذي بلغ ذروته خلال الأيام الماضية عبر موجات متبادلة من الضربات الجوية والصاروخية، تبرز سوريا بوصفها ساحة معتادة لتقاطع هذه الصراعات، لكنها اليوم تُظهر وجهًا مغايرًا عقب سقوط نظام الأسد، عبر التزام واضح من السلطة الجديدة بسياسة الحياد الإقليمي وتجنّب الانجرار إلى أتون المواجهة.
بدأ التصعيد مع هجوم جوي إسرائيلي واسع النطاق استهدف منشآت حيوية داخل إيران، من بينها مواقع نووية وقواعد عسكرية ومقار للحرس الثوري، ما دفع طهران إلى الرد عبر إطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة باتجاه أهداف إسرائيلية، وسط مخاوف دولية من تحول التوتر إلى حرب إقليمية شاملة.
رغم التحذيرات الدولية المتزايدة، لم تُصدر الحكومة السورية برئاسة الرئيس “أحمد الشرع” أي موقف رسمي مباشر حيال المواجهة المتصاعدة، ويعكس هذا الغياب موقفًا محسوبًا يتمثل في “تبنّي سياسة الحياد الحذر”، وسط مساعٍ داخلية مكثفة لإعادة الإعمار وتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.
ويُلاحظ أن الخطاب الرسمي السوري اليوم يركّز على سلامة المواطنين وتجنّب تعريض البلاد لأي انتكاسة أمنية أو عسكرية، كما يظهر من تصريحات وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح، الذي دعا المواطنين إلى توخي الحذر إزاء سقوط مخلفات عسكرية ناتجة عن الاشتباكات، من دون توجيه اتهامات أو انحياز لطرف.
وكان اعتاد النظام السابق برئاسة الإرهابي الفار “بشار الأسد”، على إصدار بيانات متكررة تُدين الهجمات الإسرائيلية على إيران وسوريا، دون أن تترجم تلك الإدانات إلى خطوات عملية لحماية السيادة الوطنية، بل كانت الأراضي السورية في عهد الأسد تُستخدم فعليًا كقاعدة خلفية للميليشيات الإيرانية في تهديد إسرائيل.
وقد سمح نظام الأسد لميليشيات “حزب الله” اللبناني، و”فاطميون” و”زينبيون” المدعومتين من إيران، بالتمركز على الأراضي السورية، وإنشاء مستودعات أسلحة وقواعد عسكرية، غالبًا ما كانت تتعرض لضربات جوية إسرائيلية متكررة، وسط صمت ميداني من النظام.
ومنذ سقوط النظام البائد، اختفى الوجود العلني للميليشيات الإيرانية المسلحة في سوريا، حيث تبنّت الحكومة الانتقالية سياسة إعادة ضبط الأمن الداخلي وتفكيك البنى العسكرية غير النظامية، في إطار مسعى لبناء جيش وطني موحّد بعيد عن التدخلات الإقليمية أو الولاءات العابرة للحدود.
ولا توجد اليوم أي مؤشرات على قيام فصائل مسلحة موالية لإيران بأي تحرك في سوريا ردًا على التصعيد الجاري، ما يؤكد الانفصال الكامل بين المشهد السوري الجديد وخطط طهران العسكرية في الإقليم.
تركز الحكومة السورية الحالية على إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتنظيم الانتخابات التشريعية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، بدلًا من التورط في صراعات المحاور الإقليمية، وتُظهر سياسات الدولة توجهًا واضحًا نحو النأي بالنفس، وتكريس مبدأ السيادة الوطنية بعيدًا عن استخدام سوريا كأداة في صراعات الغير.
وفي هذا السياق، لا يبدو أن سوريا ستعود مجددًا إلى لعب دور المنصة الخلفية لأي مشروع عسكري إقليمي، بل تسعى بجدية إلى الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي، واستقطاب الدعم لإعادة الإعمار، وطيّ صفحة الحرب والانقسامات التي غذّاها تدخل الحرس الثوري الإيراني لعقد من الزمن.
في وقت تتسابق فيه القوى الإقليمية على توسيع نفوذها عبر السلاح والتصعيد، تبرز سوريا ما بعد الأسد كدولة تسعى لبناء السلام الداخلي والتموضع كطرف محايد في صراعات الإقليم، وبينما تتصاعد النيران بين تل أبيب وطهران، تبدو دمشق الجديدة مصمّمة على البقاء خارج هذه الدوائر المشتعلة، حفاظًا على ما تبقى من الوطن، وبحثًا عن مستقبل لا يُبنى على ركام الحروب.