الثورة أون لاين – علم عبد اللطيف:
لم يكن التفريق بين الشعر والنثر يثير أي أسئلة، عندما لم يكن في عالم الأدب سوى الشعر والخطابة، وحتى مسألة الشعرية لم تكن مطروحة كثيراً في زمن تواضعوا فيه على قاعدة النظم، الروي والقافية وعدد التفعيلات، عن القصيدة الحديثة، قصيدة النثر، وهو موضوع طويل، خصصتُ له كتاباً في الآونة الأخيرة (العصر الجديد.. ظهور القصيدة الحديثة)، بدأ الحراك الأدبي والنقدي حولها ولم ينته حتى الآن، وربما كان السبب في بقاء السجال حول قصيدة النثر في المنطقة العربية، هو دورها وعلاقتها مع القصيدة الكلاسيكية، هل هي بديل عنها؟
هل تحل محلها وتلغيها؟ وهل أصبحت القصيدة القديمة بسبب من حمَّلها صفة القدم، من الماضي؟.
هي أسئلة مشروعة حقيقة، وسنبقى في بعض جوانب السجال زمناً ليس باليسير كما أزعم.
للإضاءة على بعض إشكالات المصطلح أولا، وطبيعة وماهية قصيدة الحداثة، المنفلتة من كل قيد شعري سابق، وتعلن عدم أبوة القصيدة القديمة لها بشكل صريح، فهي جنس أدبي جديد مستجد، ظهر كما ظهرت أشكال وأجناس أخرى عالمية في الأدب، كالقصة والرواية وبعد ذلك الخاطرة والمقالة والتحقيق الصحفي، وحتى لغة التجارة والطب والعلوم والتكنولوجيا والقانون.
إذا أردنا أن نطبق بعض مقولات العلم في موضوع قصيدة الحداثة، فيمكننا القول: إن الشكل الذي ولد ليس مكتملاً ولا مستقراً، ويلعب الزمن في تطويره شكلاً ومضموناً، هو ليس مولوداً اصيلاً، لأن الطبيعة والكون تنتج بشكل عام أشكالها الناضجة والمكتملة، وحقيقة أن عدم اكتمال قصيدة الحداثة واستقرارها ليس نقيصة فيها تستعدي كتابها، بل يصحون بذلك معتبرين أن (الشعر هو فتوحات دائمة في أرض اللغة والنفس.. والركون إلى شكل أخير معتبر في الشعر هو عجز إبداعي..)..
اذن والحالة هذه يمكن القول أن قصيدة الحداثة لا تبحث عن مستقر لها، بل هي تتابع مسيرها وسيروتها في تطور وتحول دائم من دون مرجعية سابقة تؤطرها أو تحدد لها سيرورتها، رغم أن (سوزان برنار).. وضعت في كتابها المعلم.. محددات كتابة قصيدة الحداثة، وإن لم تصمد هذه المحددات طويلاً أمام اندياح قصيدة الحداثة بما تحمل من حرية في أدواتها.
قصيدة النثر الحداثية، وبسبب من انفتاحها غير المقيد على كل أشكال الكتابة، وبسبب من ارتباطها عضوياً بالنثر اسماً وشكلاً، كان مفهوماً أن تتداخل مع بعض الأجناس الأدبية الأخرى، خصوصاً الخاطرة، الجنس الأقرب للشعر، وهنا ظهرت مشكلة جديدة ستلعب دوراً قوياً في السجال حول القصيدة والشعر، فهناك من يؤكد أن جمال النص هو معيار شعريته، انطلاقاً من الحالة المفتوحة للقصيدة التي لا تقف بها عند حد أو قاعدة، وبدا هذا الأمر يمثل إشكالية مضافة إلى ماهية وطبيعة القصيدة، وفي الظنين، يمكن استقراء مسألة المتابعة والانتشار، في القراءة والنشر في الفضاء الأزرق، وفي الإصدارات، وهنا تحديداً يمكن تَلَمُس مشكلة الشعر، فهذا الذي حافظ بقوة على طبيعته وماهيته عبر كل أشكال الكتابة، واستمد تميزه جنسانياً من الشعرية تحديداً،
بدا وكأن الشعرية أصبحت بمواجهة (الخوطرة).. التي يمكن أن يندغم فيها وتبتلعه.
للشعر في كل أشكاله لغةٌ، هي لغة الشعر، ميزته دوماً عن النثر، لغة ضمن اللغة، ترتقي بالنص إلى ما فوق العادي من الكلام، تم التعبير عن ذلك بــ (الانزياح).. أو التغريب بين المفردة وتاليتها، فلا مكان لتحصيل حاصل في تصييغ الجملة الشعرية، دوماً تفاجأ بالجديد غير المرتقب، وهو ما يميز لغة الشعر عن لغة النثر التقريرية. يمكن أن نعجب وندهش بنص حداثي أيما إعجاب، لكن الإعجاب والاندهاش دوما هو دليل جودة النص وليس تحديداً لجنسه، فلم يكن اندهاش أحد بِخُطَب قس بن ساعدة الإيادي لينقله يوماً إلى حقل الشعر، ما يدعو إلى هذا القول هو سيل النشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر مفيد عموماً، لكنه يحمل أشكال تحديد الجنس الأدبي، ولا ندري فيما إذا كان الكتَّاب لم ينتبهوا لهذه المسألة.. أو انتبهوا ولم يلقوا كبير أهمية لها، وفي الحالتين يبدو موقف المتلقي يحمل بعضاً من النقد الصامت أو الضمني، حين تظهر أشكال من الكتابة، تروج لها مواقع ومنصات، وتختفي فجأة.. أو يتوقف بعض الكتَّاب عن متابعة كتاباتهم بطريقة تنبئ عن وصول الرأي المفترض للمتلقي إليهم، بغية إعادة النظر في تجاربهم