الثورة – رانيا حكمت صقر
في محاضرة فكرية عميقة، حلل الباحث والناقد “علام عبد الهادي” العلاقة الملتبسة والمتشابكة بين الصحافة والسلطة، وذلك بمحاضرة حملت عنوان “الصحافة ونظرية السلطة” بالمركز الثقافي العربي بالمزة.. مفتتحاً الباحث حديثه بتساؤل محوري: أي صحافة نقصد؟ وأي سلطة؟ وما طبيعة هذه العلاقة التي تحدد مصير الحقيقة في المجتمعات؟ .
عبد الهادي بدأ بتعريف الصحافة، مستشهداً بـ”هوبكنز” الذي يراها “نقل المعلومات بدقة وتبصر وسرعة بطريقة تخدم الحقيقة” لكنه توسع ليرى الصحافة أكثر من مجرد نقل، فهي نشاط إبداعي معقد يعكس مستوى الوعي الإنساني، ويمثل تقدماً في التفكير، ويلحظ حركة المجتمع نحو المستقبل، إنها أحد أهم مظاهر النظام الاجتماعي المستقل بقوانينه الداخلية الخاصة، مستدلاً بمقولة شهيرة تؤكد أنه “حتى تستطيع الصحافة تحقيق واجباتها، من الضروري ألا يفرض عليها شيء من الخارج” وأن يعترف بأن لها قوانينها الداخلية التي بدونها لا تستطيع الاستمرار”.
وتطرق إلى الانزياح الخطير وأشار إلى الانزياح اللفظي المهم من “الصحافة” إلى “الإعلام”، موضحاً أن الصحافة مؤسسة اجتماعية داخل كيان الدولة، بينما الإعلام كمفردة قد تفقد بعض الدقة.
هذا الاستقلال الذاتي للصحافة وقوانينها لا يناسب كثيراً من السلطات عبر التاريخ، مما يدفعها لمحاولة فرض تشريعات خارجية، هنا يبرز الفرق الجوهري بين “القانون” بوصفه تعبيراً عن سكون الظاهرة، و”التشريع” الذي قد لا يواكب ديناميكية التغيير في الظاهرة نفسها، كالصحافة.
أما عن كون الصحافة كسلطة رابعة هل هو حلم أم فخ؟ تطرق الباحث إلى فكرة الصحافة كـسلطة رابعة، مفهوماً ظهر منذ القرن الثامن عشر وتعاظم مع دورها في تشكيل الرأي العام والتأثير والتوجيه.. لكنه طرح السؤال المحوري هل تسمح السلطات القائمة فعلاً بوجود سلطة مستقلة رابعة؟
الإجابة التاريخية، كما يرى عبد الهادي، غالباً ما تكون سلبية.. فبدلاً من الاستقلال، تنطلق الحكومات من فكرة أنها صاحبة الحق في السماح للمواطنين بممارسة العمل الإعلامي وحدها من يملك حق الإشراف الفعلي وفرض الرقابة بالدرجة التي تراها مناسبة من جهة ثانية نظرية السلطة والرقابة”احتكار الحقيقة”.. فقد وصف عبد الهادي كيف أحاطت “نظرية السلطة” بالفضاء الإعلامي “كالشرنقة”، مدعية أن الحقيقة تكمن بيد الدولة وحدها من يحق له احتكارها هذه النظرية تمنح السلطة الحق في تحديد ما يُقال وما لا يُقال، ما يحول الصحافة من ناقل للحقيقة ومنبر للحوار إلى أداة قهر وسيطرة عبر آليات رقابية صارمة.من التجارب التاريخية كمثال مصر نموذجاً. واستعرض الباحث تجربة مهمة في المنطقة، وهي الصحافة المصرية في فترة الأربعينيات حتى منتصف الستينيات حيث تمتعت الصحافة بقدر كبير من المبادرة في توجيه الرأي وصناعته، لكن هذه التجربة، رغم غناها، كانت قصيرة، بمجيء سلطات جديدة، تغيرت المعادلة تماماً، مما يطرح تساؤلات عن إمكانية امتلاك الصحفيين لـسلطة حقيقية أو سلطة مضادة في مواجهة هيمنة الدولة.
“مناورات السلطة ووهم الاستقلال”
وأوضح عبد الهادي أن السلطات، مدركة لقوة الإعلام، تتجنب غالباً الاصطدام المباشر معه، بدلاً من ذلك، تلجأ إلى المناورة عبر:- إصدار تشريعات وقوانين مقيدة تحت مسميات مختلفة.-التحكم في إدارة المؤسسات الإعلامية الكبرى حتى تلك التي تزعم الاستقلال.-اللعب بدرجات الرقابة، إلغاؤها شكلياً في بعض الدول، أو تشديدها في أخرى، أو السيطرة غير المباشرة.
ويخلص “علام عبد الهادي” إلى أن تاريخ العلاقة بين الصحافة والسلطة هو تاريخ صراع مستمر من أجل الاستقلال والوجود الحقيقي رغم إدراك الحكومات للتحديات التي تواجه الصحافة، فإن موقفها غالباً ما يقف عند حد “المتفرج” أو المناور، نادراً ما يكون داعماً لاستقلالها الحقيقي كسلطة رابعة. السؤال الذي يظل معلقاً: هل يمكن للصحافة أن تتحرر من “شرنقة” السلطة لتعود إلى جوهرها كناقل أمين للحقيقة ومرآة حرة للمجتمع، أم أن معركتها مع السلطة هي قدرها الأبدي؟ الإجابة تكمن في إرادة المجتمع وقدرته على الدفاع عن حريته في المعرفة.