لا يُلتقط في جهاز التنصّت.. الدراما تبحث عن معنى وخلاصها من العتمة

الثورة – سعاد زاهر:

حضرت الجريمة فصار للحكاية نبض آخر، وجاء الشر ليمنحنا سبباً لنبحث عن المعنى، وجدت الدراما البوليسية كي تكون ابنة الخوف والشك… ليست الدراما البوليسية مجرد مطاردات وألغاز تُحل، بل هي فن التشكيك، إعادة البناء من الشظايا، سؤال مفتوح حول من نحن حين نُجبر على مواجهة الظل فينا وفي الآخرين.

إنها دراما لا تعِد بالنجاة، لكنها تَعِد بالحقيقة، ولو جاءت متأخرة.

في عالم عربي تسكنه التصدعات: بين الدولة والفرد، بين الولاء والخذلان، بين السلطة والحرية، صارت الدراما البوليسية أكثر من ترف تلفزيوني؛ صارت كشفاً لما هو مخفيّ تحت السطح، ومرآة لأجهزة لا تعمل فقط على مراقبة الخارج، بل على محو الداخل.

سؤال الهوية وسط العنف

منذ بداياتها الأولى، لم تكن الدراما البوليسية مجرد نوع تلفزيوني يعنى بالإثارة وكشف الجريمة، بل كانت ولا تزال سؤالاً أخلاقياً، ومرآة مشروخة لمجتمعات تحاول أن تفهم نفسها من خلال العطب، إنها ليست فقط بحثاً عن القاتل، بل محاولة لفهم الجريمة الأكبر: انهيار القيم، تآكل الثقة، وتحوّل الإنسان إلى كائن خائف حتى من ذاته.

اتخذت الدراما البوليسية شكلاً مختلفاً؛ إذ غالباً ما تكون الجريمة انعكاساً لفشل جماعي، لا فردي.

هنا، لا تكشف الجريمة عن المجرم فقط، بل عن مؤسسات لا تعمل، وعن مواطنين يبحثون عن العدالة في الفراغ.

من مطاردة القاتل إلى مطاردة الحقيقة

ما يميز الدراما البوليسية في صورتها العميقة هو أنها لا تتوقف عند حلّ اللغز، بل تستخدمه كمدخل لإعادة النظر في البنية الاجتماعية والسياسية والنفسية.

فمن القاتل؟

ليس هو السؤال الأهم، بل ما الذي جعل الجريمة ممكنة؟ ومن هو المتواطئ الصامت؟ وهنا، تظهر شخصية ” العميل” لا كبطل خارق، بل كرجل تائه، يعرف كل شيء، لكنه لا يثق بشيء، شخصية تعبر الأزقة لا بحثاً عن الأعداء، بل عن نفسه.

فماذا تقول لنا الدراما البوليسية العربية، حين تكتب عن رجل يعيش بين الجدران، ويخاف من ذاكرته أكثر من خوفه من الرصاصة؟.

الاكتشاف البطيء والانهيار الصامت

في هذا السياق، يبرز مسلسل ” العميل” كنموذج ناضج للدراما البوليسية العربية، فالقضية الأساسية فيه ليست فقط مطاردة عصابة، بل التصدّع الداخلي الذي تعانيه الشخصية الأمنية والعائلية.

يُقدّم المسلسل حكاية شقيقين، فرّقتهما الجريمة وجمعتهما المهمّة، أحدهما داخل العصابة، والآخر داخل الشرطة، دون أن يعرف أحدهما أن الآخر هو أخوه الحقيقي.

هذه الحبكة المقتبسة من العمل التركي في الداخل تتحوّل في السياق العربي إلى تأمل في الخيانة بوصفها تكراراً مأساوياً للماضي، والولاء بوصفه فعلاً متعباً في بلد لا يُكافئ الصدق.

المسلسل الذي يُعرض على محطة mbc حالياً يأتي كعمل متفرد في بنيته، وهو من بطولة أيمن زيدان، الذي يعود بدور ملحم رجل عصابة يصعب الإمساك به في مواجهته العميد خليل يُستدعى مجدداً لمواجهة تهديد غامض.

لكن الخطر لا يأتي من الخارج فحسب، بل من الداخل: من خيانة زملاء الأمس، من أجهزة تعرف كل شيء إلا متى تتوقف.

“العميل”.. بين خيانة الذات ونجاة الذاكرة

الحبكة البوليسية في العمل تتكئ على حكاية أمير يؤدي دوره “سامر إسماعيل” يختطف شقيقه وهو طفل في الثالثة من عمره من قبل زعيم العصابة ملحم، ويقوم بتربيته، لينخرط في ممارسة هذه الأعمال ويتم تغيير اسمه، وحينما يكبر، يدخله كلية الشرطة ليصبح شرطيا جاسوساً، أو عميلاً ويطلب منه التقرّب من رئيس الشرطة.

من جهته، درس الأخ الأكبر أيضاً في كلية الشرطة، وكذلك أصبح شرطياً، وهناك، يلتقي شقيقه الأصغر، دون أن يعرفا أنهما شقيقان، يعقد رئيس الشرطة اتفاقاً مع الأخ الأكبر، ينصّ على طرده من الشرطة، ويطلب منه الانخراط مع العصابة بهدف الحصول على أدلة تدين أفرادها.

وبهذه الخطوة، يتم زرع الشقيقين في الداخل، ليكون كلّ منهما العميل الخاص بطرف الشرطة أو العصابة.

قصة المسلسل المعرب عن المسلسل التركي في الداخل، لا تبالغ في التعقيد، لكنها تتقن استخدام التوتر النفسي بديلاً عن الحركة، وتعتمد على الصمت أكثر من الكلام، على التفاصيل الدقيقة، نظرة شَك، همسة عبر الهاتف، لقطة ليد ترتجف، أو باب يُغلق بإحكام.

أيمن زيدان الذي يُقدّم أداء ناضجاً مليئاً بالصمت العميق.

لقد لعب الدور لا كممثل بل كرجل عاش تجربة الخذلان، والخوف.. يحمل وجهه طبقات من التاريخ، وكأن كل تجعيدة فيه تحكي قصة أمنية لم تُحكَ.

أما سامر إسماعيل، فيخوض تحدياً تمثيلياً جديداً بعد أدواره الناجحة السابقة، ويقدم شخصية شاب ممزق بين دوافع شخصية غامضة وواجب وطني يتطلب التضحية.

ملامحه الباردة المقترنة بأداء داخلي متوتر تضيف إلى الشخصية غموضاً جذاباً، يدفع المشاهد للتساؤل: من هو العميل الحقيقي؟

الأم بوصفها الذاكرة الحيّة للجريمة

شخصية الأم التي تؤديها يارا صبري ليست مجرد أم بيولوجية، بل تمثل الضمير المسكوت عنه، وجسر الذاكرة بين الماضي والحاضر.

إنها امرأة تعرف الحقيقة، لكنها تخفيها، وتحمل عبء الخيانة بصمت يشبه البكاء المكبوت.

منذ المشهد الأول الذي تظهر فيه، تُشعرنا بأنها تعرف شيئاً لا يقوله أحد، نظراتها، انفعالاتها المحدودة، نبرة صوتها المحايدة، كلها تشير إلى شخصية تحمل سراً قديماً، إنها شاهدة على الجريمة الأولى، اختطاف أحد أبنائها وتربيته في عالم العصابة.

هذا الصمت لا يُقدَّم هنا كخيانة، بل كفعل أمومي تراجيدي، وكأنها اختارت أن تُبقي ابنها حياً، ولو في حضن العدو، على أن تفقده إلى الأبد.

أداء يارا صبري يُشبه ما وصفه رولان بارت ” التي تقول من خلال ما لا تقوله” ، فهي لا ترفع صوتها، لا تنهار، لا تصرخ، بل تُوظف الحد الأدنى من التعبير لتمنح الشخصية الحد الأقصى من التأثير.

الرؤية الإخراجية: من التحليل إلى الاستعراض

تميّز مسلسل “العميل” باستخدامه للفضاء المكاني بشكل واعٍ، معظم المشاهد دارت في أماكن مغلقة، بين المكاتب الأمنية، الغرف المظلمة، والمنازل ذات الطابع العتيق، هذه السينوغرافيا خدمت جو العمل، وأضفت عليه طابعاً نفسياً خانقاً يتناسب مع التوتر الداخلي للشخصيات، لم تكن الأماكن مجرد خلفية بل جزء من السرد، تُعبّر عن عزلة العميل، وانفصاله عن عالم لم يعد يشبهه.

المخرج في العميل يتخذ خياراً واضحاً، البطء المدروس، والتركيز على التعبير الوجهي، والمواجهة الصامتة أكثر من المواجهات الصاخبة، لا يعتمد العمل على المطاردات أو الخدع البصرية، بل على الثقل الدرامي للنص، وصوت الشخصيات الداخلي، إنه أقرب إلى فيلم كلاسيكي.

اختناق الداخل مقابل اتساع الخارج

المكان جزء من الضيق، البيوت مغلقة، المكاتب قاتمة، الشوارع شبه خالية، حتى الضوء يأتي كأنه مُراقب، المكان ليس مجرد إطار، بل انعكاس لحالة داخلية متصدعة.

في النهاية، لا يقدم العمل خاتمة حاسمة بقدر ما يترك مرارة الاكتشاف، الجريمة، مهما كان مرتكبها ليست أكثر من مرآة للنظام كله، وللانهيار الداخلي الذي لا يظهر في التقارير الأمنية.

حين تُكتب الدراما البوليسية العربية بصدق، كما في هذا المسلسل فإنها لا تُقلد، بل تخلق لغتها الخاصة، حيث العميل ليس بطلاً، بل إنسان ضائع بين الولاءات، وحيث الجريمة ليست استثناءً، بل نتيجة طبيعية لانهيار المعنى.

في زمن عربي تتكاثر فيه الأسئلة وتغيب فيه الإجابات، لا تأتي الدراما البوليسية لتمنحنا يقيناً، بل لتفتح باب الشك، العميل ليس فقط مسلسلاً عن جريمة، بل عن ذاكرة لا تثق بنفسها عن مؤسسات تُخيف، لا تحمي، عن أبطال لا يريدون المجد، بل فقط أن ينجوا من داخلهم.

آخر الأخبار
أسئلة "علم الأحياء" للفرع العلمي طويلة وتحتاج التركيز بالنقد تُبنى الدول الممكن والمأمول أمام التحديات السورية الراهنة الاستثمار في سوريا.. فرصة للنهوض وتحديات تنتظر الحل الغاز الأذربيجاني يتدفق.. والكهرباء تتحرّك في ريف دمشق إعفاء مشتري العقارات من إيداع 50 بالمئة.. والمخاطر محتملة المالية تنقل صرف رواتب موظفي السويداء إلى مصارف إزرع مؤقتاً قطاعا الصناعة والزراعة أول المستفيدين من انتظام الكهرباء أذربيجان تؤكد: مشاريع مشتركة مع تركيا لدعم إعادة إعمار سوريا وخط الغاز محطة مفصلية تدشين مشروع الغاز الأذربيجاني إلى سوريا.. خطوة استراتيجية تعزز التضامن الإقليمي ودعم التعافي طلاب العلمي يودّعون الامتحانات.. علم الأحياء بأسئلة متوازنة بين الدقة والتركيز العائدون إلى ريف إدلب الجنوبي يصطدمون بواقع منسي.. لا ماء ولا كهرباء ولا أمل قريب فضل عبد الغني: تأسيس الشبكة العربية لاستقلال القضاء خطوة استراتيجية لدعم تحول العدالة في سوريا صورة بلودان.. رسائل سياسية في مشهد هادئ بنظر السوريين جرحى مدنيون وعناصر من وزارة الدفاع بقصف لـ"قسد" استهدف ريف منبج الطرقات السورية مسرحٌ للموت اليومي..حوادث المرور تتحوّل إلى أزمة مجتمعية خانقة ليث البلعوس: دعوات الحوار في السويداء تواجه التهديد.. ولا وصاية خارجية على الجبل بحث تحسين الواقع الخدمي والإداري في «إزرع» وزير المالية: إعفاءات كاملة للمكلفين من غرامات ضبوط التهرب الضريبي د. "عبد القادر الحصرية"..تعليمات البيوع العقارية ..تعفي المشتري من  إيداع  50 بالمئة للعقار